نهاية الاحتلال في فلسطين
تشهد الأراضي الفلسطينية مظاهر مقاومة شعبية فردية وجماعية متعدّدة، بهدف التحرّر أولا، ورد فعل ثانيا على تصاعد الممارسات الإجرامية والاستعمارية الصهيونية، كاغتيال الإعلامية شيرين أبو عاقلة، وزيادة الهجمات الصهيونية على المسجد الأقصى، والتوسع الاستيطاني، والاعتداءات الصهيونية المتكرّرة، وتواصل جرائم التطهير العرقي والفصل العنصري تجاه سكان فلسطين الأصليين. الأمر الذي بات يرسم ملامح مرحلة جديدة في المسار التحرّري الفلسطيني، ويقطع، كليا، مع مرحلة الاستسلام والانهزام التي بدأها اتفاق أوسلو. كما تصاعد الخطاب الصهيوني المعبّر عن هذه المرحلة، وعن مخاطرها على استمراره وبقائه القسري على أرض فلسطين في الوقت نفسه، وهو ما يتطلب بعض التمعّن والتحليل.
يمكن اعتبار التصريح المسرّب عبر وسائل إعلام صهيونية لوزير الدفاع بيني غانتس أشهر تلك التصريحات وأوضحها "إن المخاوف من سيطرة الفلسطينيين على إسرائيل في المستقبل ليست بعيدة عن الواقع... الدولة اليهودية ستتقلص خلال السنوات المقبلة لتصبح ما بين مستوطنة غديرا والخضيرة". كما يمكن العودة إلى مقالة رئيس الوزراء الصهيوني الأسبق، إيهود بارك، المنشورة أخيرا في صحيفة يديعوت أحرونوت، وحذّر فيه مما أسماها لعنة العقد الثامن التي قد تطيح دولة الاحتلال خلال السنوات القريبة. وهو ما يمكن اعتباره امتدادا لتصريحات سابقة منسوبة لرئيس حكومة الاحتلال السابق، بنيامين نتنياهو، في ندوة نظمت في العام 2017 بمناسبة عيد العرش اليهودي التي قال فيها، وفقا لصحيفة هآرتس، "وجودنا ليس بديهيا.. هناك مخاطر وجودية تهدّد وجود إسرائيل". وأيضا يمكن إضافة تصريح رئيس الوزراء الصهيوني الحالي، نفتالي بينت، "ننتظر منكم، يا مواطني إسرائيل، أن تفتحوا عيونكم في كل مكان توجدون فيه، ومن لديه رخصة سلاح، فإن هذا هو الوقت لحمله". .. تلمّح جل هذه التصريحات إلى إمكانية تحرير فلسطين وزوال الاحتلال الصهيوني بشكل كامل، وتحذّر من المخاطر المحدقة بالاحتلال، لكن هل يصح الأخذ بها بجدّية؟
الاحتلال قائم ومعد للحرب الدائمة مع سكان فلسطين الأصليين ومع مجمل المنطقة، وهو ما يتبدّى في جميع ممارساته الساعية إلى تفجير المنطقة
في البداية، ومن ناحية نظرية بحتة، الزوال مصير كل احتلال، في حال إصرار الشعب الأصلي على التمسّك بحقوقه المسلوبة والمواظبة على مقاومته. وعليه، استمرار المقاومة الفلسطينية الشعبية سوف تُفضي، لا محالة، إلى تحرير فلسطين، أي لا تقدّم التصريحات الصهيونية أي جديد على هذا الصعيد. كما لا بد من التأكيد على أهمية الجانبين، النفسي والمعنوي، في حسابات الصراع من أجل التحرّر، فهو يلعب دورا محوريا في شحذ الهمم أو في تثبيطها على جانبي الصراع، أي على جانب المستعمرين أو المستوطنين وعلى جانب المستعمَرين. وهنا من المفيد الاستفادة من هذه التصريحات، لاستنهاض طاقات الشعب وتأجيج قواه الكامنة وتأطيرها في صالح المسار التحرّري، تماما كما ساهمت انتفاضة أيار من العام الماضي (2021) في ذلك، ونسبيا معركة سيف القدس، ولاحقا مقاومة شعبنا البطل في جنين والقدس وأراضي 48 وبيتا وغيرهم طبعا.
تعود الخطابات الصهيونية القلقة والحذرة إلى فترة سابقة، كما في تصريح نتنياهو في العام 2017، وربما نجد تصريحات مماثلة قبل ذلك، وهو ما يوحي بأهداف مقصودة من هذا التصريح، فوضع المقاومة الشعبية في 2017 مغاير عن وضعها اليوم، وخصوصا فيما يتعلق بانتشارها وكثافتها وتكراريتها، فاليوم تنتشر مظاهر المقاومة الشعبية على مُجمل مساحة فلسطين التاريخية، كما يشارك فيها الكل الفلسطيني. ونشهد مظاهر بوتيرة متكرّرة ودورية متقاربة زمنيا. وعليه، لا تعبر مجمل التصريحات الصهيونية في اعتقاد كاتب المقالة عن أزمة الاحتلال وإشكالاته، بقدر ما تعبّر عن دوره المنوط به في فلسطين والمنطقة. حيث يسعى الاحتلال إلى إدامة حالة الصراع والاشتباك من أجل منع المنطقة من الاستقرار والأمان وإدامة تجزئتها وتفكيكها وتخلفها. فالاحتلال قائم ومعد للحرب الدائمة مع سكان فلسطين الأصليين ومع مجمل المنطقة، وهو ما يتبدّى في جميع ممارساته الساعية إلى تفجير المنطقة وإثارة الغضب الشعبي. بالتالي، تبدو تصريحات الساسة والقادة الصهاينة من أشكال التعبئة والتحريض الضرورية لاستمرار آلة الإجرام الصهيوني، فهذه الآلة تحتاج إلى التحريض المستمر من أجل ضمان مدّها بكتلة بشرية مشحونة بمشاعر العداء والقلق والخوف من الآخر، كي تمارس الإجرام يوميا على الفلسطينيين من دون تفكير، ومن دون أي رادع قيمي أخلاقي وإنساني، وهو السبب الكامن في تزايد وتيرة التصريحات اليوم، وتأطيرها في اتجاه الصدام المباشر مع شعب فلسطين الأصلي، كما في دعوة حمل السلاح الفردي واستخدامه، وكذلك في تواتر الدعوات إلى اقتحام الأقصى.
تعبر التصريحات الصهيونية عن إصرار صهيوني على مواجهة المسار التحرري الفلسطيني إلى مدى زمني طويل نسبيا
لا يعني ذلك التقليل من مدى تطور المقاومة الشعبية أو من قوة تأثيرها الراهنة والمستقبلية، بقدر ما يوضح أنها في حاجة لمزيد من التطور ومن البناء التنظيمي والتعبوي، فمعركة التحرّر طويلة وشاقة، خصوصا بالحالة الفلسطينية التي نواجه فيها نموذجا استعماريا خاصا، لا يبحث عن فرض حالة من الاستقرار والأمان ولو مرحليا، من أجل نهب ثروات الدولة المستعمرة واستغلالها، كما في حالات الاستعمار الأخرى التي عرفها التاريخ البشري، بما فيها حالات الاستعمارات الإحلالية، فحتى الحالات الاستعمارية الإحلالية التي شهدها التاريخ البشري سابقا؛ أستراليا أميركا نيوزيلندا، كان الهدف الرئيسي منها استقدام مستوطنين وإحلالهم بدلا من سكان البلد الأصليين؛ ومن ثم إلى جانب الباقي من السكان الأصليين، بغرض استثمار ثروات الوطن المستعمر واستغلالها. أما في الحالة الفلسطينية، فالغرض الرئيسي من زرع الاحتلال الصهيوني على أرض فلسطين يكمن في إبادة شعبها وزرع دولة احتلالية، تؤدي إلى تقسيم المنطقة وإدامة تخلفها وإثارة النعرات والنزاعات فيها.
بناءً عليه، تعبر تلك التصريحات الصهيونية عن إصرار صهيوني على مواجهة المسار التحرري الفلسطيني إلى مدى زمني طويل نسبيا، من خلال تأمين احتياجات هذه المواجهة البشرية والمادية، الأولى عبر تحريض أصحاب الديانة اليهودية، وتجنيدهم في آلته الإجرامية، والثانية عبر الضغط على المنظومة الدولية المسيطرة كي تستمر؛ بل وتزيد؛ في تمويل آلة الإجرام الصهيوني وحمايتها. وعليه، معركة التحرّر الفلسطيني طويلة وشاقة، وعلى الفلسطينيين الاستعداد لذلك جيدا، بدلا من التراخي الذي قد تسبّبه المبالغة في تقدير صعوبة معركة التحرير وطولها، كما علينا الحذر من تكرار تجارب الماضي، وتصحيح أخطائه، ومعالجة تبعاتها وضمان عدم تكرارها أيضا، وهو ما يتطلّب وعيا ويقظة شعبية، وإلا قد نشهد تكرارا لتجربة انحراف حركة فتح من كونها مشروعا تحرّريا إلى مشروع سلطوي بوظيفة أمنية محدّدة ووحيدة، فسيطرة الشعب الفلسطيني وتحكّمه بمصيره وبمساره التحرّري هو الضامن الوحيد والأوحد لاستمرار هذا المسار من دون أي انحرافات أو مواربات مستقبلية من أي طرف أو جهة فلسطينية أو غير فلسطينية، فدور حركة حماس في معركة سيف القدس لا يمثل ضمانة لدورها المستقبلي، خصوصا إن أخذنا بالاعتبار برنامجها السياسي المعدّل وتمسكها بسلطة وهمية في غزة، لذا لا بد من الحذر ومن العمل جماهيريا على بناء مؤسسات وبرامج نضالية وسياسية وتأطيرها شعبيا خاضعة لسلطة شعب فلسطين كل فلسطين وسيطرته، أينما كان بعيدا عن تحكم رغبات الفصائل والحركات السياسية وأهوائها وتحالفاتها.