نهاية مأساوية لرئيس كوميدي
باحث سوري في قضايا المجتمع المدني وحقوق الإنسان. عضو في المكتب التنفيذي لرابطة الكتاب السوريين ورئيس تحرير موقع "سيريان أبزرفر" ومسؤول تحرير في موقع الأوان.
اختار الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، الخاتمة التي تناسب طبعه وخلقه ومسيرته الشخصية والسياسية. أطلق العنان لمجموعة من الرعاع العنصريين الراديكاليين الذين أرادوا تغيير نتائج الانتخابات بالقوة. اقتحمت هذه العصابات مبنى الكونغرس في العاصمة، حيث كان أعضاء مجلسي الشيوخ والنوّاب مجتمعين لتثبيت انتخاب جو بايدن رئيسا للولايات المتحدة. قُتلت امرأة من المهاجمين، ومات أربعة آخرون، بينهم شرطي، بسبب تداعيات الهجوم، وجرح آخرون، ثمّ انسحبوا إلى بيوتهم، بينما سينسحب ترامب من الحياة العامة قريبا جدا، وقد لوّث سيرته السياسية والشخصية بأسوأ خاتمةٍ ممكنةٍ لأي رئيس.
في السادس من يناير/ كانون الثاني، وضع الرئيس ترامب نهاية تشبهه تماما، حيث ذلك اليوم بدأ اليومَ بوقاحة أخرى تناسبه، حين كرّر للمرّة الألف ادّعاءه الخادع والمضلّل عن سرقة الانتخابات، أمام تجمع حاشد في الحديقة جنوب البيت الأبيض. وهو حرّضهم بشكل مباشر وصريح، عندما قال لهم: "نحن ذاهبون إلى مبنى الكابيتول. سنحاول أن نعطي الجمهوريين. .. الفخر والجرأة اللذين يحتاجون إليهما لاستعادة بلدنا".
كثيرا ما قال ترامب أشياء مدمّرة تماما، ليخرج بعدها محاموه ومساعدوه ليبرّروا سلوكه غير المسؤول بالقول إن كلامه لا يعدو مزحة بريئة. ولكن مناصريه من حثالة العنصريين البيض عرفوا، في هذه المرّة، أن كلامه كان دعوة جدية إلى حمل السلاح، فنفّذوا أوامره واحتلّوا برلمانهم.
مناصرو ترامب من حثالة العنصريين البيض عرفوا أن كلامه كان دعوة جدية إلى حمل السلاح، فنفّذوا أوامره واحتلّوا برلمانهم
بالنسبة لأي شخصٍ زار مبنى الكابيتول الأميركي، كانت المشاهد التي تلت ذلك غير مفهومة، إلى درجة أن الأمر استغرق زمنا لاستيعاب ما كان يجري هناك. في العقدين الماضيين منذ الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول، كان الكونغرس محاطا بحلقاتٍ أمنية متعدّدة. وفجأة اختفت تلك القوّات الأمنية، وسُمح للغوغاء بالسيطرة على الشرطة، فحطموا النوافذ وفتحوا الأبواب واحتلّوا المكاتب، وتسكّعوا عند مكاتب أعضاء مجلس الشيوخ والنواب، وفتّشوا الأدراج ولوّحوا بما غنموه أمام المصورين، من دون خجل أو مواربة، وجلس أفّاق خطر على مكتب رئيسة مجلس النواب، نانسي بيلوسي، رافعا قدميه فوق الطاولة، عارضا نفسه للتصوير.
تراجع رجال الشرطة إلى الوراء، حيث فاق عدد المهاجمين عددهم، وبدوا غير واثقين من كيفية الردّ. لو أن هؤلاء الرعاع كانوا من السود أو المكسيكيين أو العرب، لسمعنا بعشرات القتلى ومئات الجرحى والمعتقلين، ولكن هؤلاء كانوا من أنصار ترامب، بيضا ومسلّحين وعنصريين وبدون شفقة. واليوم لا أحد لديه ثقة تامة بأن أيا من عصابات ترامب سوف يقدّم فعلا للمحاكمة.
في المقابل، تأخر إرسال التعزيزات الأمنية والحرس الوطني الفيدرالي عمدا، لإخافة النوّاب وإثارة الرعب في قلوب الأميركيين. ولقد نجح ترامب وعصابته في ذلك، فقد انتاب الأميركيين والمتابعين للحدث في العالم قلق عميق وعدم يقين. وتجسّد ذلك في نبرة صوت المذيعين والمحلّلين والمسؤولين الذين ظهروا على شاشات التلفزة، وتهدّج هذه النبرة وارتعاشها أحيانا.
آخر مرّة هوجم فيها مبنى الكابيتول الأميركي في واشنطن كانت في عام 1812، على يد الجيش البريطاني، المحتل وقتها. واليوم، نجح ترامب في ربط اسمه بهجوم جديد، بعد أكثر من قرنين على الهجوم الأول، وهو ما يليق بالرجل فعلا.
التأثير المدمّر للرئيس ترامب المدمّر يتقلّص، ومؤيدوه من المعتدلين والمؤمنين الحقيقيين والمثقفين بدأوا يدركون القوّة السلبية التي يشيعها من حوله
في مقال نشرته في مجلة ذي أتلانتيك عام 2016، لاحظت الكاتبة الأميركية، سالينا زيتو، أن الصحافة كانت تأخذ ترامب "حرفياً، ولكن ليس على محمل الجد، بينما كان أنصاره يأخذونه على محمل الجد، ولكن ليس حرفيا". وعلى مدار السنوات الأربع القاتمة من حكم ترامب، كان هناك شعار يردّده الجمهوريون لتهدئة خواطرهم في ما يخصّ بربرية رئيسهم، ولتبرير الدعم الذي كانوا يقدّمونه له. كانوا يردّدون فكرة أنه لا يجب أخذ ترامب حرفيا. ولكن في هذه المرّة أخذ مناصرو الرئيس ترامب كلماته حرفيا وبشكل جدّي، فقاموا بالعمل الذي جعل أحد معلّقي شبكة سي إن إن، فان جونز، يقول معلّقا على أحداث 6 يناير: "مصيرنا أشبه الآن بمصير سورية". وعلى الرغم مما في هذا الكلام من ألم، قد نغصّ به نحن العرب أو السوريين، فإن فيه للأسف كثيراً من الصحة.
وبلغ ذلك من الصفاقة حدّا جعل حتى قادة الجمهوريين في الكونغرس يتبرأون منه ويدينونه بدون تحفّظ. وبينما قال ترامب للغوغاء إنه يحبهم وإنهم مميزون، طالب نائب الرئيس، مايك بنس، الذي كان هو نفسه عرضة للهجوم، أن يقدّم المهاجمون إلى العدالة. وذهب عضو مجلس النواب عن ولاية إيلينوي، الجمهوري، آدم كينزينغر، أبعد من ذلك، حين طالب بإقالة الرئيس دونالد ترامب، باستخدام التعديل الخامس والعشرين للدستور الذي يسمح لنائب الرئيس وأغلبية أعضاء الحكومة الأميركية إقصاء الرئيس عن منصبه، لأنه غير قادر على أداء سلطات منصبه وواجباته، ويتولى حينها نائب الرئيس على الفور سلطات المنصب وواجباته، بصفته رئيسا بالإنابة. وأدلى كينزينغر بهذه التصريحات الخميس في مقطع فيديو نُشر على تويتر، مؤكّدا أن الرئيس ترامب لم يعد "مؤهلا" وأنه رجل "مريض "، ولذلك عليه "الآن أن يتخلى عن السيطرة على الفرع التنفيذي طوعا أو كرها".
لم يكن مفاجئا سلوكُ الرئيس ترامب، بل بدا لكثيرين من المتابعين أنه النتيجة المنطقية لسياساته العنصرية ولنرجسيته المتعاظمة
لم يتحلّ كلّ الجمهوريين بالصدق والشجاعة هذين، فالسيناتور تيد كروز الذي يمنّي النفس بالترشّح للرئاسة من جديد في 2024 يريد أن يجتذب قاعدة الرئيس ترامب، العنصرية البغيضة، إلى صفّه، وكذلك عدد من النواب وأعضاء مجلس الشيوخ في المناطق المؤيدة لترامب بكثافة ظلّوا يقفون معه حتى النهاية، غير أنهم يسيرون في الاتّجاه المعاكس للتاريخ، فقد أثبتت الأيام الأخيرة أن التأثير المدمّر للرئيس ترامب المدمّر يتقلّص، وأن مؤيديه من المعتدلين والمؤمنين الحقيقيين والمثقفين قد بدأوا يدركون القوّة السلبية التي يشيعها الرجل من حوله، وينفضّون عنه تاركين الحلبة للعنصريين المتطرّفين والمتفوقين البيض وحثالة المجتمع الأميركي. ولذلك خسر الحزب الجمهوري آخر معركة انتخابية يوم 5 يناير/ كانون الثاني الحالي في ولاية جورجيا، حين فقد عضوا مجلس الشيوخ عن ولاية جورجيا مقعديهما لصالح وجهين جديدين في المشهد السياسي، وهزم الديمقراطي رافائيل وارنوك السناتور الجمهورية، كيلي لوفلر، وهزم الديمقراطي جون أوسوف السيناتور ديفيد بيرديو. لقد قرّرت الولاية إقصاء هذين السياسيَّين القريبين من ترامب، واللذين طالما تباهيا بتأييدهما المطلق له. في المقابل، أرسلت الولاية إلى واشنطن بدلا عنهما، ولأول مرة في تاريخ الولاية، رجلا أسود البشرة وآخر يهوديا، في صفعة للمحافظين الجمهوريين، وفي إشارة إلى أن التاريخ يسير في الاتجاه المغاير.
واختصارا، لم يكن مفاجئا سلوكُ الرئيس ترامب، بل بدا لكثيرين من المتابعين أنه النتيجة المنطقية لسياساته العنصرية ولنرجسيته المتعاظمة، ولوضعه نفسه ومصالحه قبل مصالح الأمة الأميركية والعالم. كان (رغم ضخامته) أصغر بكثير من منصبه، فوقع عنه بجدارة.
باحث سوري في قضايا المجتمع المدني وحقوق الإنسان. عضو في المكتب التنفيذي لرابطة الكتاب السوريين ورئيس تحرير موقع "سيريان أبزرفر" ومسؤول تحرير في موقع الأوان.