نيل الوسائل لنبل الغايات
... وما زالت مقولة "الغاية تبرّر الوسيلة" واحدة من الأقوال المعروفة والمثيرة للجدل في الفلسفة الأخلاقية والسياسية. حاضرة ضمنياً في كلّ نقاشٍ سياسيٍّ أو ثقافيٍّ أو اجتماعي أو أخلاقي، وإن غابت بحرفيّتها، لكن كل طرق النقاش وأساليبه ومآلاته أيضا تؤدّي إليها باعتبارها العبارة المنقذة أحياناً لكلّ من ينادي، بأبشع الوسائل، بقمع المطالبات الفردية والجمعية.
يعود أصل المقولة إلى الكاتب والفيلسوف الإيطالي ميكافيلي في كتابه الشهير "الأمير". يستعرض الكتاب الذي في أصله رسالة بحثية في الفقه السياسي السبل التي يجب أن يتبعها الحاكم، أي حاكم، للحفاظ على السلطة والتحكّم في الشعب من خلالها، فيعتقد مكيافيلي أن الحاكم يجب أن يكون مستعدًا لاستخدام أي وسيلةٍ ضروريةٍ لتحقيق الهدف النهائي، حتى لو تطلّب الأمر استخدام الخداع والتلاعب والتزييف والكذب والظلم المنظم، وصولاً إلى استخدام العنف بكلّ أشكاله في سبيل غايته النهائية.
ورغم أن تفسير المقولة يتباين حسب السياق والمجال الذي يتم استخدامها فيه، إلا أن إطارها العام، الذي أشبع نقاشاً وجدلاً منذ صدور الكتاب في العام 1532، أي بعد تأليفه بعقدين تقريباً، كان دائماً مثار جدل أدّى، في كثير من تطبيقاته على أرض الواقع السياسي إلى تحوّلات جذرية كبيرة في بلدانٍ كثيرة، فانطلاقاً من المفهوم الأخلاقي، يفسّر بعض الناس تلك المقولة المثيرة بأن الأغراض النبيلة تبرّر وسائل غير أخلاقية أو غير قانونية، وهذا يثير اعتراضاتٍ كثيرة من الطابع الأخلاقي العام ذاته. بينما يرى آخرون أن المقولة تعني أن من الضروري، في بعض الأحيان، تقبل وسائل غير مرغوبة أو غير أخلاقية أو تحمّلها، وفقاً للمبادئ الأخلاقية المتعارَف عليها، لتحقيق غاية مهمة أو إيجابية قد تفوق الأضرار المحتملة.
من الناحية السياسية، قد يفسّرها بعضهم بأنه يمكن للحكومات أو الأنظمة السياسية الحاكمة استخدام وسائل غير مشروعة، وفقا للسائد، قمعا واضطهادا، في سبيل تحقيق أهدافها المعلنة وغير المعلنة. وهذا ما أثار دائماً انتقادات وشكوكا كثيرة بشأن مدى التعامل العادل والأخلاقي للحكومات التي لا تعرّف بأنها ديكتاتورية أو قمعية في فضائها العام.
مع ذلك، هناك نقاشات وتحفظات كبيرة حول صحة (وصلاحية) المقولة "الغاية تبرّر الوسيلة"، فكثيرون يرون أن الغاية لا يجب أن تبرّر أي وسيلة، وأن الأخلاق والقيم الأساسية يجب أن تكون على رأس الاعتبار في كلّ الأوقات. يعتبر هؤلاء أنّ الاستماع للقيم الأخلاقية والالتزام بها يمكن أن يؤدّي إلى نتائج أفضل وأقوى بشكل عام.
علاوة على ذلك، يجب أن نأخذ في الاعتبار أن استخدام الوسائل غير المشروعة أو غير الأخلاقية قد يؤدّي إلى نتائج ضارّة على المدى الطويل. قد تؤدّي هذه الوسائل إلى فقدان الثقة والتعاطف من الآخرين، وتدمير العلاقات الاجتماعية والسياسية، وزعزعة الاستقرار العام. على المدى البعيد، قد يؤدّي تجاهل الأخلاق إلى تفشّي الفساد والظلم، وتعزيز ثقافة القوة والاستبداد.
لذا، علينا تحقيق توازنٍ ما بين تحقيق الأهداف والغايات المهمة، واحترام القيم الأخلاقية والقانونية. يجب أن نسعى إلى اختيار الوسائل التي تتوافق مع الأخلاق والقيم الأساسية، ونحاول تجنّب الوسائل التي تتسبّب في الأذى والظلم للآخرين.
احترام المبادئ الأخلاقية والقيم الأساسية ينبغي أن يكون على رأس الأولويات في اتخاذ القرارات وتحقيق الأهداف، وذلك لتعزيز المجتمعات الصحية والمستدامة على المديين القريب والبعيد أيضاً. فلا يمكن للغايات النبيلة أن تتحق على أنقاض غايات أكثر نبلا، ومن أساس نبل الغايات أن يكون الوصول إليه نبيلاً بدوره أيضاً.