هامش في متن القيامة السورية الجديدة

09 يناير 2025
+ الخط -

استمع إلى المقال:

في هذه الأيام العصيبة، تولد سورية من جديد، ولأنّنا نرى قيامتها أمام أعيننا مقبلةً لا محالة، مثل قيامة ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، فإنّنا سنضع هذه المقالة ملاحظات يمكن أن تشكّل بمجملها اللوحةَ كاملةً.

بدأت الثورة السورية في مارس/ آذار 2011 سلميةً، باعتراف العالم أجمع والمجرم الهارب ذاته، واستمرّت أشهراً، وبضغط العنف الهائل أُجبِرت على التسلّح، ثمّ مرّت بمراحل عديدة حتى وصلت إلى النصر الذي نتغنّى به جميعا.

لم تستطع القوى السياسية السورية على اختلاف مشاربها وتيّاراتها وانتماءاتها وتوجّهاتها بناءَ كيانٍ سياسي واحد منظّم قادرٍ على إنتاج بديلٍ لنظام الأسد البائد رغم مساوئه كلّها، وفساده، وتحجّره وإجرامه. كانت القناعة الشعبية عند الغالبية العظمى من السوريين والسوريات راسخةً بأنّ مؤسّسات المعارضة، وخاصّة الرسمية منها، هي الوجه الآخر لعملة النظام، حتى إن لم تشارك مثله بالإجرام، لكنّها كانت ضمن منظومة المحسوبيات والفساد ذاتها. كانت قناعة الغالبية العظمى من السوريين راسخةً أنّ هذا النظام الإجرامي لا يمكن إسقاطه إلا بالقوّة العسكرية، وأثبتت الأيّام صحّة هذه القناعة الشعبية النابعة من الضمير، والبعيدة من الأخذ بما كانت تمليه مناورات السياسة.

لم تستطع القوى السياسية السورية على اختلاف مشاربها وتيّاراتها وانتماءاتها وتوجّهاتها بناءَ كيانٍ سياسي واحد منظّم قادرٍ على إنتاج بديلٍ لنظام الأسد البائد رغم مساوئه كلّها

لم تستطع جميع القوى أن تنتج قيادةً عسكرية موحّدة تتبع لجهة سياسية (كانت مفقودةً أيضاً). وبالتالي، بقيت على تشرذمها، واستُلحِقت بهذه الدولة أو تلك، ولا ننسى الفصائل التي أرسلت مرتزقتها للقتال في أذربيجان وليبيا. لعب الموقف الدولي الجديد من إيران دوراً مهمّاً في تغيير موازين القوى، فقد انتهى عصر التعايش مع منظومة التخريب الإيرانية، التي سُمِح لها بتهديم بنية الدول العربية، التي قضمها نظام الملالي بعد احتلال العراق، وبعد ثورات الربيع العربي. ورغم أنّ الفراغ الحاصل بعد تحطيم حزب الله بيد إسرائيل كان كبيراً جدّاً، إلا أنّ الجهة الوحيدة السورية التي تنبّهت له كانت هيئة تحرير الشام. البيّنُ من سياق الأمور أنّ الهيئة حضّرت لعمل محدود على مستوى ريفي إدلب الجنوبي وحلب الغربي، وهو ما كان واضحاً من تسمية العملية "ردع العدوان"، وربّما فوجئت قيادة الهيئة ذاتها بانهيار جبهة حلب انهياراً سريعاً، لكنّها أخذت زمام المبادرة، وتابعت العمل في باقي مدن سورية لتحريرها، واحدة تلو الأخرى.

لم يكن بالإمكان كشف حجم الإجرام بحقّ الشعب السوري لولا أن سقط النظام بهذا الشكل، فلو طُبِّق القرار 2254 لكان المجرم الجلاّد موجوداً، مثله مثل الضحية، إلى الطاولة، وما كان يمكننا أن نحلم حتى بالكشف عن السجون والمعتقلات والمقابر الجماعية والفساد المستشري حتى نخاع العظم. التجاوزات التي حصلت مع دحر النظام، التي لا يمكن إنكارها، لا تعادل واحداً في المليون من انتهاكات وإجرام جيش النظام والمليشيات التي احتلّت سورية، خاصّة تلك التي حصلت عند احتلال ريفي حلب، الشمالي والغربي، وريف إدلب الجنوبي، إذ هُجّر جميع أهالي هذه المناطق بالكامل، فلم يبقَ فيها إنسان واحد من أصل ما يزيد على مليون إنسان، كما نُهِبتْ الممتلكات وهُدِّمت المدن والقرى عن بكرة أبيها، ودُنِّست دور العبادة والمقابر وكلّ ذرّة تراب.

الاستجابة البراغماتية عند القيادة العليا للإدارة الجديدة أكثر من ممتازة، بل هذه القيادة تسبق جمهورها الحاضن بأشواط بعيدة، وتسبق كثيراً من أشخاص وكيانات المعارضة، التي تُصنِّف نفسها سياسيةً وديمقراطيةً. المرحلة الراهنة لا يمكن تحمّل ضغوطها بسهولة أبداً، من جهة أولى الضغوطات الشعبية التي تتطلّع إلى تحقيق الأمن والاستقرار، والكشف عن مصير المفقودين، ومن جهة ثانية، الضغوط الشعبية التي تتطلّع لتأمين أسس الحياة بالحدّ الأدنى، التي حرم النظام البائد الناس منها، ثمّ تأتي ضغوط الفصائل العسكرية التي ترى أنها جزء من العملية التي أسقطت النظام، وبعدها ضغوط القوى والشخصيات السياسية التي ترى أنّه لا بدّ من توسيع دائرة المشاركة، ولا بدّ من أن يشمل الحكم الانتقالي أوسع طيف سوري ممكن. وهناك ضغوطات إسرائيل التي فقدت مَلِك ملوكها الأسد بهذا الشكل المريع. وبعدها تأتي ضغوطات الدول الإقليمية والعربية، وضغوطات إيران المدحورة مع حليفها، وضغوطات أوروبا وأميركا. هذا أمرٌ كبير جدًّا عند تشريحه إلى عناصره الأولية.

 المؤتمر الوطني المقبل سيحدّد شكل الحكومة الانتقالية والهيئة التأسيسية وهيئة الانتخابات، وجميع التشكيلات في سورية

كانت جميع القوى السياسية تقترح إيجاد مجلس عسكري لضبط الأمور، لكنّنا جرّبنا المجالس العسكرية سابقاً، وفكرة المجلس العسكري كان من الممكن نقاشها لو لم ينهر النظام والجيش والمليشيات التابعة له. أمّا الآن فلا يمكن ضبط السلاح والأمن إلا بقوّة منضبطة تتبع سلسلة قيادة بشكل هرمي متسلسل واضح، وهذا غير متوفّر إلا لدى هيئة تحرير الشام، أو على الأقلّ متوفّر لديها بشكل واضح، ولدى غيرها بتفاوت كبير.

تسعى دول الإقليم والدول العربية والغربية بالعموم وراء مصالحها، وهي ترى في قيادة الإدارة الجديدة نموذجاً واعداً قادراً على النجاح، ومصلحتها واضحة في نجاحه. مجدّداً، مصلحة الدول لا مصلحة السوريين، فلسنا نصدّق الشعارات ولا الخطابات، لأنّ أغلب الدول التي يتراكض مسؤولوها الآن إلى دمشق هي ذاتها التي كانت تسير بخطىً واضحةٍ للتطبيع مع النظام البائد. لم تتدخّل الدول في الشأن السوري من أجل سواد عيون السوريين، بل لتحقيق مصالحها الخاصّة. وهي الآن تتدخّل أيضاً لحماية مصالحها، وتستخدم الشعارات الرنّانة التي يطرب لها بعضهم، ويظنّها آتيةً لحمايته وتحقيق مصالحه. لماذا زار الوزير الفرنسي الكنائس رغم أنّ دولته علمانية، بل متطرّفة في علمانيتها، وتمنع أيّ رمز ديني من الظهور في الشأن العامّ (خاصّة إن كان إسلامياً)؟ هل من يمثّل المسيحيين هم القساوسة ورجال الدين فقط؟ ثمّ لماذا نسمح لهؤلاء بالتدخّل في شؤوننا الداخلية؟ ألن يكون ذلك مبرّراً لتدخّل روسيا لطلب حماية المسيحيين الأرثوذكس، وغيرها لحماية الشيعة، وغيرها لحماية العلويين، وغيرها لحماية الدروز .... إلخ؟ وممّن يحمونهم، من أهلهم السوريين؟ أليس في قبول هذا مبرّر لتبرير طرف من هنا التدخّل التركي، وطرف من هناك التدخّل العربي، وآخر يحاول إعادة التدخّل الإيراني؟

يجب ألا نغفل أو نتغاضى عن أيّ انحراف أو تجاوز، ويجب أن ندفع برؤيتنا إلى الأمام حتى تصبح سورية في مكانها الصحيح

بالمختصر المفيد، ترى الدول مصالحها مع القوي، والشعب السوري تعب من التشتّت والضياع ويريد الاستقرار. فماذا نحن (أعني القوى الديمقراطية الليبرالية والعلمانية) فاعلون؟ هل نتّخذ موقف العداء من الإدارة الحالية، أم موقف الحياد، أم المعارضة، أم الانخراط في التجربة ودعمها كما هي، أم الانخراط فيها ودعمها مع النقد المستمرّ للأخطاء والتجاوزات؟... الجواب الذي نختاره ممّا هو مُبيّن أعلاه هو الذي يحدّد مسار كلّ واحد فينا من الأفراد والكيانات السورية. ويجب ألا ننسى أنّ الدول ذاتها، التي تُصنِّف الهيئة، هي ذاتها التي تتعامل معها، وبالتالي، علينا، نحن السوريين، أن نكون أكثر براغماتيةً لأننا يجب أن نبحث عن مصالحنا الوطنية، وأن نحافظ على وحدة بلادنا، وأن نساهم في إعادة بنائها. أليس من الواقعيّة السياسية أن نفكّر في الإيجابيات كما نفكّر في السلبيات؟

يجب ألا نغفل أو نتغاضى عن أيّ انحراف أو تجاوز، ويجب أن ندفع برؤيتنا إلى الأمام حتى تصبح سورية في مكانها الصحيح، الذي هو حقيق بها، والذي تستحقّه ونحن نرجوه. يجب ألا نغفل عن حجم الدمار الهائل في بنيتنا التحتية، ويجب ألا ننسى حجم الشروخ الهائلة في هُويَّتنا، ويجب أن ندرك أننا بحاجة إلى مساعدة من العالم كلّه، وليس من هذه الدولة أو تلك فقط. يجب أن نتحلّى بالحلم والصبر والمرونة في سلوكنا وتفكيرنا وعملنا. لنتذكّر أنّ المؤتمر الوطني المقبل سيحدّد شكل الحكومة الانتقالية والهيئة التأسيسية وهيئة الانتخابات، وجميع التشكيلات التي ستوجد في سورية خلال الأعوام الثلاثة أو الأربعة المقبلة، وسينتهي مفعول هذا المؤتمر بإنجاز هذه الهيئات. فما هو موقفنا من ذلك كلّه؟... الإجابة الصحيحة هي الهامش الممكن في متن القيامة السورية الجديدة.

56B14126-91C4-4A14-8239-0C25A8235D5D
56B14126-91C4-4A14-8239-0C25A8235D5D
حسان الأسود

كاتب ومحامٍ وحقوقي سوري، المديرالسابق للهيئة السورية للعدالة والمحاسبة، مقيم في ألمانيا.

حسان الأسود