هجرة أم هروب من وطن؟
صورة السيدة التونسية التي غرقت، قبل أيام، هي وابنها، وهي التي لم تتجاوز عقدها الرابع، ما زالت تثير جدلاً حاداً في تونس في أوساط الرأي العام والنخب عموماً. كانت آخر صورة بعثت بها، وهي في عرض البحر، تحتضن ابنها وترسم بسمة عريضة وسط زرقة لا نهاية لها. ما رشح من معلومات عنها أنها خرّيجة جامعية. عانت سنوات طويلة من البطالة. قد تكون افتتحت روضة للأطفال، ثم سرعان ما أغلقتها تحت وطأة الديون. في هذا المناخ القاتم، تتوالى بيانات وزارة الداخلية التي تصدر فيها أرقام تتعلّق بالهجرة السرّية التي لم تعد كذلك منذ أكثر من عقد، لم تعد تعني الرأي العام. يتعلق بعضها بمن قبضت عليهم السلطات، ويتعلق بعض آخر بالعمليات المجهضة، سواء المنظمين أو المهاجرين، وأخرى تتعلق بالمفقودين والجثث التي يتم انتشالها. لا يكاد أسبوعٌ يمرّ من دون أن تسجل سواحل تونس أحداث غرق يذهب ضحيتها تونسيون أو أفارقة قادمون من جنوب الصحراء. سجلت الأشهر الأخيرة أرقاماً قياسية في عدد التونسيين الذين وصلوا إلى الشواطئ الإيطالية، وقد يكون وصل إليها ما يناهز عشرين ألفاً خلال السنة المنقضية. يبدو أنهم تربّعوا على قائمة الجنسيات التي عبرت المتوسط.
.. لا يمكن لعامل القرب الجغرافي أن يفسر وحده هذا الزعامة، بل هناك عوامل أخرى، لعل أهمها المعارف والمهارات التي راكمتها شبكات التهجير، علاوة على معضلة مراقبة أجهزة الأمن السواحل في ظل شحّ الإمكانات وتهالك الأسطول الذي يبدو أكثر من أي وقت مضى عاجزاً عن القيام بمهمة الشرطي الفطن.
توظف شبكات عابرة للقارّات أرقى تكنولوجيات الاتصال، وتستدرج كبار المسؤولين الأمنيين في أكثر من دولة
تحت ضغط السلطات الإيطالية، زار الرئيس قيس سعيّد، قبل سنتين، منطقتين ساحليتين تونسيتين، ما زالتا تتصدّران الولايات الساحلية الأكثر نشاطاً في مجال الهجرة السرّية؛ صفاقس والمهدية. التقى آنذاك كبار المسؤولين الجهويين وضباط الأمن البحري، فضلاً عن مجموعات من الشباب. كان الرئيس في تفسيره ظاهرة الهجرة قد انطلق من أن الأمر لا يخلو من مؤامرة على شباب تونس، وأنه جادٌّ في توفير شروط الحياة الكريمة الكفيلة بثني الشباب عن الإقدام على المغامرة القاتلة. لا تزال الظاهرة تراوح مكانها، بل ترتفع كل المؤشرات، وتفيد تقارير إعلامية وحقوقية نشرت أخيراً بأن طريقاً جديداً تم إنجازه، بكثير من المغامرة واللهو، طريق تطاوين (في تونس) صربيا مروراً بتركيا، إذ توظف شبكات عابرة للقارّات أرقى تكنولوجيات الاتصال، وتستدرج كبار المسؤولين الأمنيين في أكثر من دولة.
تعاقبت الأنظمة على تونس خلال العقود الأخيرة، وظلت الظاهرة قائمة. وهذا ما يتيح الاستنتاج أن طبيعة الأنظمة السياسية، تسلطية أو ديمقراطية، ليست المحدّد في ظاهرة الهجرة. يبرهن هذا المتغير الثابت والعابر للأنظمة السياسية أن للهجرة أسباباً أخرى غير سياسية بالضرورة. التهميش الاجتماعي والاقتصادي وغياب مشاريع ثقافية قيمية تمنح الناس مشروع حياة كريمة في أوطانها بعضٌ من عوامل حاسمة.
فتيات وأحداث وشيوخ يهاجرون. يرغب الكل في التدارك، ويهرول تجاه بصيص من أمل
تفتح حضانة ثم تغلقها أمام تفاقم الديون وجملة المشكلات المادية الأخرى. بذلك تقدّم السيدة التونسية التي شاعت صورتها غريقة عيّنة عن عشرات القصص المشابهة التي لم يعد المهاجرون فيها حكراً على صورة نمطية تحصرهم في شبابٍ مغامرٍ عاطل عن العمل. تغيرت هذه الملامح كثيراً في السنوات الأخيرة. فتيات وأحداث وشيوخ يهاجرون. يرغب الكل في التدارك، ويهرول تجاه بصيص من أمل، حتى ولو كان مدسوساً في السم.
تحرص البلدان الأوروبية التي يصل إليها التونسيون أو يعبرون إليها على الضغط على حكومة بلدهم، حتى توقف هذه الموجات البشرية غير المسبوقة، سواء من التونسيين أو من جنسيات أفريقية. وقد توصلت بريطانيا إلى اتفاقية مع رواندا على استقبال آلاف طالبي اللجوء ممن وصلوا إلى هناك، شرط أن يعاد ترحيلهم إلى بلدانهم. تريح هذه الحيل القانونية تشريعياً تلك الدول، وتحول العبء الأكبر، سواء كان ذلك الضمير الخلقي أو التكلفة المادية، إلى دول أفريقية، عادة ما تكون أنظمتها تسلطية، حتى لا تكون تحت المساءلة القانونية أمام محاكم مختصة.
لن تتراجع الظاهرة، وستظل ترتفع حيناً وتنخفض حيناً آخر. ولعل العمل المحدّد في هذا كله جاهزية القوات الأمنية وأحوال المناخ.