هجرة شرعية أم تجارة بشر؟
"نحن أبناء الأمة العربية في طليعة المطالبين بحقوق الإنسان، ليس لأنّ حقوق الإنسان جاءت أوّل ما جاءت في بلادنا عبر الأديان المقدّسة فحسب، ولكن لأنّ المظلومين عادة هم أوّل وأخلص المطالبين بحقوق الإنسان، ونحن في هذا العصر مظلومون، ومن أوّل حقوق الإنسان حقّه في أن يرحل إلى حيث يريد، ويعيش حيث يريد، وما تاريخ الدنيا إلا تاريخ هجراتٍ عمّرت أرجاء الأرض، مكتشفة قارّات جديدة بأكملها، ولكن تهجير ملايين اليهود من روسيا إلى إسرائيل لا يندرج في هذا الإطار، بل بالعكس تماما، فقد كانت الهجرات دائماً عفويةً اختياريةً غير منظمّة، وخاليةً من أيّ نية غزوٍ أو عدوان".
السطور السابقة صاغها الكاتب المصري الكبير، الراحل كمدًا على أوضاع مصر والأمة العربية، أحمد بهاء الدين، لكنه لم يستطع نشرها في مقاله اليومي بصحيفة "الأهرام المصرية" التي ترأس تحريرها ذات يوم، فاضطرّ إلى نشرها في صيغة إعلان مدفوع الأجر في صحيفة "الأخبار"، وقّع عليه 22 شخصية مصرية وعربية، صرخوا في صوت واحد ضد ما وصفها بهاء الدين بجريمة العصر. وكانت جريمة العصر، بحسب البيان، "تهجير اليهود الروس إلى فلسطين، فهو لأوّل مرة في التاريخ يتم بتواطؤ دولي، وعلى يد الأقوياء، واغتصابا لأرض الآخرين، وعدواناً ومحواً لحقوق الإنسان في أرضه الأصلية".
منذ ذلك الوقت، لم أعرف أنّ دولة لجأت إلى سياسة تهجير شعبها إلى دولة أخرى نوعًا من الاستثمار، أو بالأحرى الاتّجار بالبشر، بحثًا عن حلولٍ لأزمةٍ ماليةٍ طاحنةٍ صنعتها إدارة هذه الدولة بسياساتها الخاطئة، حتى قبل يومين عندما أعلن الجنرال عبد الفتاح السيسي في حديث نقله التلفزيون المصري عن التفكير في تهجير عدد من المصريين إلى دول أخرى قد تكون في حاجةٍ لزيادة عدد سكّانها، في إطار الأفكار المتداولة في مصر لتخفيض عدد السكان.
قال السيسي، خلال فعاليات مؤتمر السكان والصحة الذي تستضيفه القاهرة حالياً، إنّ "بلاده لديها فرصة كبيرة في تنظيم الهجرة الشرعية إلى الدول الأوروبية التي تعاني نقصاً في أعداد المواليد، لأنّها طاقة عملٍ ستحقّق عوائد للاقتصاد في هذه البلدان"، مضيفاً أنّ "الهجرة الشرعية هي الحلّ لمواجهة نقص العمالة في أي دولة، وسيكون ذلك بالتنسيق والتفاهم بين الدول وبعضها، وتقديم العمالة لها لمددٍ محدّدة سلفاً".
وقالت وزيرة الدولة للهجرة وشؤون المصريين بالخارج، سها جندي، إنّ الوزارة تعمل على تنفيذ مقترح الرئيس عبد الفتاح السيسي تنظيم الهجرة إلى بعض الدول، عبر المبادرة الرئاسية "مراكب النجاة"، في إطار برنامج يستهدف "تدريب المصريين على أعلى المستويات، وتأهيلهم للعمل في السوق الأوروبية والغربية".
تصريحات السيسي، منطوقًا ومضمونًا، واضحة لا لبس فيها، وهو أن تتولّى الدولة بنفسها تنظيم هجرة مواطنيها إلى بلدانٍ أخرى تعاني من نقص التعداد، وهو أمرٌ مختلفٌ تمامًا عن فكرة تصدير العمّال المدرّبة التي تتحدث عنها الوزيرة، ذلك أنّ تصدير العمالة مسألة عادية وطبيعية، ولا غبار عليها بين الدول ذات الطلب المرتفع على حرفيين ومهنيين في مجالاتٍ بعينها، وهؤلاء يمثلون مصدرًا مهمًا من مصادر الدخل القومي، إذ بلغت تحويلات المصريين بالخارج في العام الماضي نحو 12 مليار، وهو رقم أكبر من عائدات قناة السويس.
أما تهجير مواطنين للاستقرار في بلاد أخرى تشكو من شحّ السكّان، فهذا لا معنى آخر له سوى أنّه اتجار في البشر، وكأنهم قطعان ماشيةٍ أو "أجولة" قمح تتناقلها المراكب، حتى لو كان اسمها "مراكب النجاة"، ذلك أنّ الأصل في موضوع الهجرة، شرعيًة كانت أم غير شرعية، أنّها اختيارٌ حرّ وواع للفرد نفسه، وحقّ أصيل من حقوق الإنسان، كما هو في الصياغة المدهشة للراحل أحمد بهاء الدين في يوم 25 فبراير/ شباط عام 1990 التي تقول "ومن أول حقوق الإنسان حقّه في أن يرحل إلى حيث يريد، ويعيش حيث يريد، وما تاريخ الدنيا إلا تاريخ هجراتٍ عمّرت أرجاء الأرض"، كما أنّ "حقّ الإنسان في الهجرة لم يقترن أبداً بكلّ الإجراءات التي ترغمه على الاضطرار للذهاب إلى مكان معيّن".
ذلك هو المفهوم الإنساني المحترم للهجرة، بوصفها قرارًا شخصيًا حرًّا في اختيار الوجهة وتحديد التوقيت. أما غير ذلك فهو عنوان ذلك البيان التاريخي للموّقعين عليه قبل ثلاثة وثلاثين عامًا: جريمة اتجار في البشر.