هذا الاستقطاب الليبي بين البرلمان والحكومة
أعلن البرلمان الليبي المنعقد في طبرق، أخيرا، سحب الثقة من حكومة الوحدة الوطنية، والتي جاءت عبر تفاهماتٍ وحوارات متعدّدة، قادتها بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، عبر ملتقى الحوار الليبي لإنهاء الانقسام السياسي أولاً، والأجسام المؤسسية الموازية في البلاد ثانياً، وصولاً إلى التهيئة اللازمة للانتقال إلى المرحلة المقبلة في أواخر هذا العام ثالثاً، عبر خريطة الطريق المعدّة سلفا لذلك، ناهيك عن مخالفة هذا الإجراء الاتفاق السياسي الذي تسير عليه البلاد منذ 2015.
غير أن هذه الحكومة منذ منح الثقة لها البرلمان المتشظّي على نفسه، وهي في حالة استقطاب حاد تعلو بوادره وتفتر بين حين وآخر، من تَدَخُّل في عملها، وفرض وزراء ووكلاء في تشكيلتها، إلى حجب الميزانية عنها، ومن ثَمَّ مساءلتها! لتكون بعد ذلك القشة التي قسمت ظهر البعير كما يقال، بحجب الثقة عنها. غير أن المتتبع لذلك كله يتضح له أن الحكومة، بطريقة أو أخرى، كان لها جزء كبير في جعل هذا الاستقطاب واقعاً، لأمرين: قبولها بالمتناقضات في تكوينها، وجعل اليد الطولى في ذلك لأعضاء البرلمان. وإصرارها على الحصول على الثقة منه، وإن جعل ملتقى الحوار الليبي المكون أمميا، والمُوجد لها طريقا أخرى لذلك عن طريق الملتقى نفسه، إلا أن الإصرار على نيل الثقة من البرلمان جعله يلتئم مجدّدا، ويعود إلى الحياة السياسية، بعد أن كان في حكم الميت سريريا، باعتبار انقسامه إلى برلمانين، أحدهما: في الشرق بمدينة طبرق، والآخر اتخذ من العاصمة طرابلس مقرّا له بعد العدوان عليها، حيث استطاع البرلمانيون الرافضون للعدوان على طرابلس تكوين جسم برلماني بعدد كبير من الأعضاء، شلَّ برلمان طبرق، وجعله منعدم النصاب، إلا أنه أُعيد إلى الحياة السياسية عن طريق التوافقات بين أعضائه لإنهاء الانقسام، في ظل مرحلة أريد لها أن تؤسّس إلى زمن توافقي، وصولا إلى الانتخابات في 24 ديسمبر/ كانون الأول 2021، وباعتبار أن التوافق على حكومة وحدة وطنية جزء من ذلك، وإن كان التوافق، في حقيقته، في إيجاد الحكومة وتكوينها خارج الإطار البرلماني في البلاد.
وصل الاستقطاب السياسي الواقع حاليا بين البرلمان والحكومة إلى درجته القصوى، باعتبار أن كلا منهما يدعو إلى إسقاط الآخر
وصل الاستقطاب السياسي الواقع حاليا بين البرلمان والحكومة إلى درجته القصوى، باعتبار أن كلا منهما يدعو إلى إسقاط الآخر، ليس في ظل المماحكات والمصالح التي يحاول أن يجنيها كل فريق، بل أيضا في ظل قلب المعادلة السياسية والعودة بها إلى المربع الأول، باعتبار أن الاستقطاب بينهما كان، في وقت ما، استقطابا نخبويا عبر تحصيل المصالح، والموازنة بين الاستفادة وعدم إسقاط الآخر. وبمعنى آخر، السير معاً بأهداف مغايرة، وصولاً إلى مرحلة قطف الثمار، غير أن هذا الوضع لم يستطع كلاهما المحافظة عليه، أو حتى السير فيه طويلا، لاعتباراتٍ قد تكون واضحةً لكل متابع، لعل أبرزها: استحالة السير معاً وفق توجهات ورؤى مختلفة تتغذّى من الذاتية، وإبراز كونها الفاعل في المشهد الليبي داخلياً، ومن ثم إقليمياً. ولعلَّ ذلك هو السبب الرئيسي في سحب الثقة من الحكومة، حيث وجد البرلمان الحكومة تسحب البساط تدريجيا من حلفائه الإقليميين، وإثبات كونها الفاعل الرئيسي في المشهد الليبي. وكذلك كون هذا الاستقطاب، في حقيقته، تحكمه الولاءات السياسية التي لا يمكنها الجمع بين النقيض وضده. وبالتالي، سرعان ما كان الاستقطاب الجماهيري، أو الشعبي، هو المعلن الآن، باعتبار أن الاختلافات السياسية متزايدة، وأن الكل يحتكم إلى القاعدة الشعبية، وهي الفيصل في مقبل الأيام.
النتيجة المتوقعة للاستقطاب مزيد من الاختلاف، وعدم الوصول إلى الانتخابات في موعدها المحدّد
كما أن الاستقطاب الحاصل في ليبيا اليوم في حقيقته متعدّد الاتجاهات، بين مكونات وتيارات سياسية مختلفة، بعضها يرى في الانتخابات المقبلة طريقا لحل الأزمة، وإن تحمل في طياتها نتائج غير واضحة المعالم، وأخرى ترى أن تكون هذه الانتخابات وفق قاعدةٍ دستورية سليمة ومتفق عليها بين جميع الأجسام والمكوّنات السياسية في البلاد، وإن أدَّى ذلك إلى تأخيرها، لضمان نجاحها واستقرار البلاد، وكذلك الاحتكام إلى قوانين أو نص دستوري عند الاختلاف، في محاولةٍ لإبعاد شبح عسكرة الدولة، أو الرجوع بها إلى الحكم الديكتاتوري. وهناك فئة ثالثه يتناسب معها الوضع الحالي للبلاد، ويؤدّي الانتقال إلى المرحلة المقبلة إلى إنهائها.
وبالتالي، النتيجة المتوقعة لهذا الاستقطاب، في النهاية، أنه سيؤدّي إلى مزيد من الاختلاف، وعدم الوصول إلى الانتخابات في موعدها المحدّد، وربما تدخل البلاد بعد ذلك مرحلة جديدة من الاتفاق السياسي، تتهيأ البلاد على أثره لأزماتٍ عديدة، وأكثر حدّةً مما كان قبلها، إن لم يتم تدراكها الآن بتوافق، ولو جزئي، ينهي هذه المرحلة، وهذا الاستقطاب.