هذا الصراع على الإيرادات في اليمن
أصدر البنك المركزي اليمني في عدن (الخاضع لسلطة المجلس الرئاسي)، في 30 الشهر الماضي (مايو/ أيار) قرار تجميد نشاط ستة من البنوك والمصارف العاملة في العاصمة صنعاء، تبعه قرار سحب التداول بالطبعة القديمة من العملة المحلية الصادرة قبل 2016، أي المتداولة في مناطق سيطرة جماعة الحوثي. كما وجّه بتوقيف الحوالات الخارجية إلى مناطق الجماعة. في المقابل، حظر البنك المركزي لصنعاء التابع للجماعة التعامل مع عدة بنوك في مناطق المجلس الرئاسي، ما يعني أن حرب البنوك انتقلت إلى مرحلة جديدة من التصعيد، وأكثر خطورة، إذ قد تشلّ تبعاتها الكارثية القطاع المصرفي والمالي، بما في ذلك مضاعفة انهيار العملة المحلية، كما أنه لا يمكن التكهّن بأبعادها ولا بنتائجها، بحيث قد تدفع المتصارعين إلى جولات قادمة من التصعيد التي تعني تقويض الاقتصادي اليمني.
يأتي الصراع بين البنكين المركزيين في سياق الصراع على الإيرادات، تدفعه الأزمة الاقتصادية التي يعاني منها طرفا الصراع، وذلك نتيجة شحّ الموارد واستمرار الوضع الاقتصادي، بما في ذلك تدهور العملة المحلية، ومن ثم محاولة للسيطرة على الوضع الاقتصادي، وتثبيت وضع سياسي تفاوضي جديد، وإن بوسائل اقتصادية، أو على الأقل تغيير مراكز القوى في المعادلة المصرفية والمالية. وفي هذا السياق، يهدف البنك المركزي في عدن إلى تثبيت سيادته على البنوك والمصارف في اليمن، بفرض شرعيته على المصارف في المناطق الخاضعة لجماعة الحوثي، وأيضا توحيد العملة، إلى جانب أهداف آنية، وذلك بخفض سعر العملة المحلية في المناطق المحرّرة، وأيضا ضرب اقتصاد جماعة الحوثي وتجفيف مواردها، إضافة الى رفع الغطاء القانوني عن الطبعة القديمة من العملة، بتقييد تداولها اليومي، تمهيدا ربما إلى إلغائها، إلى جانب، وهو الأهم، المراهنة على أن تؤدي هذه القرارات إلى تحسين المركز التفاوضي لسلطة المجلس الرئاسي مع الجماعة، سواء في الملف الاقتصادي أو السياسي. ويتكئ البنك المركزي في عدن على عوامل قوة من امتلاك شرعية التخاطب مع البنوك والمصارف الدولية، ومن ثم دفعها إلى حظر التعامل مع البنوك في مناطق جماعة أنصار الله (الحوثيين)، كون هذه الجماعة منظّمة مصنفة إرهابية، إلى موقف القوى الدولية المناوئ للجماعة بعد مضاعفة هجماتها في البحر الأحمر، إضافة إلى عدم امتلاكها موارد استراتيجية، كالنفط والغاز، ومن ثم ممارسة ضغط اقتصادي عليها، فضلا عن إعلان الحكومة قرارات مصاحبة تشكّل إسناداً سياسياً واقتصادياً للبنك، كنقل أرصدة بعض المؤسّسات العاملة في صنعاء، كشركة طيران اليمنية، وشركات السفريات، وشركات الاتصالات، فيما تعتمد جماعة الحوثي على وسائل بديلة لإدارة معركتها ضد خصومها.
يتأسّس اقتصاد جماعة الحوثي على الجباية، مقابل سيطرتها على الإيرادات والموارد، وإدارة القطاع المصرفي والمالي والنقدي في المناطق الخاضعة لها بشكل حمائي
تُحدّد فاعلية الطرف الأقوى وقدرته على إدارة حربه، وفي هذه الحالة حربه النقدية والمالية، عوامل عديدة، منها نوع الاقتصاد المحلي، وأيضا السلطة التي تدعمه، ومن ثم قدرة المصارف المركزية، كالبنك المركزي، على إدارة الموارد والإيرادات، بيد أن اختلالات الوضع الاقتصادي في المناطق المحرّرة كرّسه اقتصاداً تابعاً، ومن ثم عرضه لاهتزازات، إذ يعتمد البنك المركزي في عدن على ودائع المتدخّلين لإدارة العملية الاقتصادية، مقابل توقّف توريد النفط والغاز إلى الخارج، ومن ثم فقدانه سيولة نقدية من العملة الأجنبية، تغطّي النفقات التشغيلية لمؤسّسات الدولة، كما أن انقسام سلطة المجلس الرئاسي بين قوى متعدّدة عطّل إمكانية سيطرته على الإيرادات وتوريدها إلى خزينته، إضافة إلى فشله في تثبيت سعر الطبعة الجديدة من العملة مقابل الدولار. وذلك جرّاء انقسام السلطة، وفسادها، والاعتماد على الودائع التي توجّه سعر العملة، كما أن فشله في وضع آلية موحّدة تضبط عمل المصارف وتوحد سعر صرف العملة يشلّ قدرته للقيام بإصلاحات اقتصادية شاملة وجذرية. ومن ثم فإن قرار نقل البنوك والمصارف العاملة في صنعاء وحظر التعامل بالطبعة القديمة من العملة قد لا يؤدي في ظل المشكلات البنيوية التي يواجها البنك المركزي الى توحيد القطاع المصرفي والنقدي، كما أن نتائج القرارات تخضع للإجراءات التي ستّتخذها البنوك في صنعاء، والخطوات التي ستلجأ لها أيضا الجماعة، كما أن سحب الطبعة القديمة من التداول قد لا يؤدّي إلى تحسين قيمة الطبعة الجديدة من العملة أو توحيد العملة الوطنية مستقبلا، إذ إن دفع المواطنين إلى استبدالها بالنقد الأجنبي قد يودّي إلى نقص السيولة في اليمن كله، ومن ثم قد يدفع بانهيار العملة المحلية، سواء الطبعة الجديدة أو القديمة، كما أن تجذّر الشبكات الاقتصادية التي تتاجر بالعملات الأجنبية، وكونها عبرة لمعسكرات الحرب، قد تقيد قدرته على ضبط سوق النقد الأجنبي. ومن جهة ثانية، قد يدفع إرباك القطاع المصرفي إلى تهريب العملات الأجنبية إلى الخارج، بما في ذلك رؤوس الأموال، ومن ثم ضرب الاقتصاد الوطني. ومن جهة ثالثة، وعلى الرغم من تعهّد البنك بضمان حماية ودائع المودعين في مناطق الجماعة، فإن آلية التعويض والسقف الزمني للعملية، وبأي عملة سيتم تعويضهم، تفرض عليه أعباء جديدة. ومن جهة رابعة، تتوقف فاعلية قرارات البنك على جدّية السعودية والإمارات بدعم المجلس الرئاسي لمواجهة الجماعة، سياسيا واقتصاديا أيضاً. إضافة، وهو الأهم، إلى الدعم الدولي لأي إجراء اقتصادي حقيقي ضد الجماعة، أي حصول البنك على ضوء أخضر. ومع أن بعض المصارف الدولية والإقليمية أعلنت التزامها بقرارات بنك مركزي عدن التي طالت البنوك والمصارف في صنعاء، كشركة موني غرام العالمية وبنك الراجحي السعودي، فإن السيطرة على القطاع المصرفي والنقدي في اليمن وتوحيد العملة يتطلبان وقتا طويلا، وقبلها سيطرة اقتصادية على الموارد والإيرادات، تعزّزه سلطة سياسية موحّدة، وقبلها تسوية سياسية بين المتصارعين تنهي الحرب، واتحاد المؤسّسات الاقتصادية.
إلى جانب تقييد نشاط البنوك والمصارف، اعتمدت جماعة الحوثي على تجميد ودائع المواطنين وتجميد الفوائد، لتضمن استقرار الطبعة القديمة من العملة
يتأسّس اقتصاد جماعة الحوثي على الجباية، مقابل سيطرتها على الإيرادات والموارد، وإدارة القطاع المصرفي والمالي والنقدي في المناطق الخاضعة لها بشكل حمائي لتعزيز سياستها الاقتصادية، إضافة الى تثبيت حالة الانقسام الاقتصادي وطنيا، لضمان موارد متجدّدة، تدعم خزينتها. وإلى جانب تقييد نشاط البنوك والمصارف، فإنها اعتمدت على تجميد ودائع المواطنين وتجميد الفوائد، لتضمن استقرار الطبعة القديمة من العملة. ومن جهة ثانية، تكريس شرعية الطبعة القديمة ومنع تداول الطبعة الجديدة ومصادرتها، أي تثبيتها الطبعة القديمة باعتبارها العملة القانونية الوحيدة، وبالتالي، التحكّم بسعر صرفها مقابل الطبعة الجديدة. ومن جهة ثالثة، الاعتماد على فارق السعر بين الطبعتيْن من العملة في التحويلات الداخلية التي تدرّ عليها مليارات الدولارات. رافق هذا الانقسام المالي والنقدي ضمان موارد من الحوالات الخارجية إلى مناطقها، وأيضا ضمان دعم مالي من شبكات حلفائها في الإقليم، إلى جانب استخدام موقعها بوصفها سلطة لمصادرة أموال معارضيها، سواء كانوا جماعات أو أفراداً، أو شركات، من وضع يدها على أموال الجماعة البهائية قبل سنوات، إلى السيطرة على أموال خصومها السياسيين والتجار. ومن ثم، فإن قرارات البنك المركزي لعدن تعني استهداف مركزها السياسي، وأيضاً ضرب اقتصادها والإخلال بسياستها الحمائية لضبط سعر العملة، فإلى جانب أنها ستفقد هيمنتها السياسية بوصفها سلطة أمر واقع تسيطر على العاصمة، وتحول البنوك في المناطق الخاضعة لها إلى فروع ملحقه بالمناطق المحرّرة. وبالتالي، تحويل الجماعة إلى سلطة تابعة، وهو ما فشل فيه خصومها من خلال الخيار العسكري، فإنها ستفقد موارد ضخمة. وأيضا التأثير على استقرار الطبعة القديمة من العملة، وذلك بدفع المواطنين إلى سحب ودائعهم من البنوك المحظورة، وأيضا دفع البنوك إما الى وقف نشاطها في صنعاء، أو نقل أرصدتها إلى الخارج، ومن ثم إرباك النشاط الاقتصادي والمالي والتجاري في مناطق الجماعة، ولمواجهة الحرب المالية والنقدية التي تطاولها، حظر البنك المركزي الخاضع للجماعة، نشاط عدد من البنوك التي تقع مراكزها الرئيسية في عدن، وكذلك سحب الطبعة القديمة من العملة وذلك بوضع آلية لشرائها من المواطنين في مناطق المجلس الرئاسي، واستبدالها بالطبعة الجديدة، إذ وضعت الجماعة مراكز استبدال في نقاط جمارك داخلية، إلى جانب شراء العملات الأجنبية وتثبيت سعر الصرف، إلا أن هذه الإجراءات لا تضمن استقرار الوضع الاقتصادي للجماعة على المدى البعيد، بما في ذلك حلّ الإشكالات المتأتّية من قرار بنك مركزي عدن، إذ إن تصنيفها منظمّة إرهابية يجعلها خاضعة للعقوبات الاقتصادية، فلن تستطيع إجبار المؤسّسات المالية الدولية التعامل مع البنوك في المناطق الخاضعة لها، ما يجعلها تواجه عزلة اقتصادية، كما أن الاعتماد على سياسة تدوير الطبعة القديمة من العملة لمواجهة قرار إلغائها، وذلك بسحبها من مناطق المجلس الرئاسي وتعويض المواطنين بالطبعة الجديدة، وإن بفارق السعر التقليدي بين الطبعتين، لا يمثل حلا لتثبيت الطبعة القديمة من العملة، وإدامة تداولها، كما أن الفساد في سلطة الجماعة، بما في ذلك ضلوع قياداتها في المضاربة في العملات الأجنبية يجعلها غير قادرة على ضبط سعر العملة، بما في ذلك ضمان سيولة من النقد الأجنبي، فضلا عن تثبيت صرف العملة المحلية، كما أن إدارة حرب طويلة مع البنك المركزي لعدن الذي هدّد بإجراءات عقابية قادمة قد تسبّب أزمة اقتصادية إضافية للجماعة، تضاف إلى أزماتها، ومع أنها لجأت كالعادة لاستراتيجية الإرهاب للضغط على الأمم المتحدة والقوى الدولية، وذلك باعتقال أكثر من 60 موظفا يمنيا يعملون في منظمّات دولية وأممية، فإن خيارتها الاقتصادية تبدو محدودة في الوقت الحالي، ومن ثم وفي حال فشلت في إدارة تفاهمات مع خصومها، لوقف العقوبات التي طاولت البنوك والمصارف في مناطقها، فإن الخيار المتبقّي أمامها يبقى الخيار العسكري، وإن كانت له أيضا مخاطره وتحدّياته.