هذه الموجة من الاحتجاجات في تونس
تشهد تونس، في هذه الأيام، موجة من الاحتجاجات الليلية، تعرّضت خلالها منشآت عمومية وممتلكات خاصة للتخريب، في ظل مواجهات مستمرة مع القوات الأمنية. وعلى الرغم من أن الاحتجاجات الجارية في الأحياء الشعبية لا تحمل شعارا مطلبيا واضحا، إلا أن الأكيد أنها تستند إلى خلفياتٍ اجتماعيةٍ تعود إلى حالة الكساد الاقتصادي وانتشار البطالة التي توازت مع انتشار الوباء وفوضى القرارات الرسمية المتناقضة بين الحكومات المتعاقبة.
يدرك أي متابع للمشهد التونسي أن حركة الاحتجاجات لم تتوقف منذ سنة 2010. وإذا كانت التحرّكات الشعبية التي شهدتها البلاد في نهاية حكم زين العابدين بن علي قد تواشج فيها الاجتماعي والسياسي، وأسفر عن سقوط النظام، ودخول تونس مرحلة جديدة من تاريخها، ومحاولة التأسيس لنظام سياسي مغاير لما كان سائدا، إلا أن حركة الاحتجاجات ظلت مستمرّة على خلفياتٍ مختلفة، أخذ بعضها طابعا جهويا وصراعاتٍ قبليةً أحيانا، أو ترافقت مع أحداث سياسية واغتيالات، مثلما جرى سنة 2013 بعد اغتيال ناشطيْن سياسيين (اغتيال شكري بلعيد ثم محمد البراهمي)، إلا أن الاحتجاجات الشعبية على خلفية المطالب التنموية وأزمة البطالة ظلت تتجدّد باستمرار، وبصيغ مختلفة، ودرجات متفاوتة من الحدّة والعنف.
ميزة الاحتجاجات المجتمعية في تونس أنها لا ترفع شعاراتٍ محدّدة، ولا تملك قياداتٍ ولا تخضع لتنظيماتٍ
يجد الحراك المجتمعي في تونس جذوره في أزمة الحوكمة وحالات سوء التصرّف في الموارد الوطنية والتفاوت بين الجهات، وتعمّق الهوة بين الطبقات، وهو من المشكلات الكبرى التي تراكمت في ظل دولة الاستقلال. وميزة الاحتجاجات المجتمعية في تونس أنها لا ترفع شعاراتٍ محدّدة، ولا تملك قياداتٍ ولا تخضع لتنظيماتٍ، حتى وإن حاولت بعض القوى الحزبية الركوب عليها وتجييرها لصالحها، وهذا أمر متكرّر منذ الاحتجاجات العنيفة لثورة الخبز (يناير/ كانون الثاني 1984). وظل الانفصام قائما بين الشارع ونخب سياسية متسلقة استفادت من التحوّلات السياسية، ولكنها لم تبذل جهدا لحل أزمات الملف الاجتماعي.
يمكن أن نتحدّث عن حالة فصام حادّة بين حركية الجمهور من جهة وتطلعات "النخب" من جهة ثانية، ففيما يتحرّك الجمهور غالبا من أجل مطالب اجتماعية وتحسين الوضع الاقتصادي، تجنح النخب إلى الحديث عن الأزمة السياسية وقضايا الانتخابات والحوارات الوطنية من أجل إعادة اقتسام مواقع النفوذ والتأثير داخل الدولة، وهو ما لا يمثل حلا حقيقيا، والدليل هو تجدّد الاحتجاجات في كل مرة، بما يعني أن الحلول المقترحة كانت فوقية، ولا تمسّ واقع الأزمات المستفحلة والمؤثرة في حياة عموم الناس.
الحلول الاقتصادية ظلت تراوح مكانها بين خضوع لاشتراطات صندوق النقد الدولي وضغط النقابات التي تمثل شريحة موظفي الدولة
على الرغم من الثورة السياسية ودخول البلاد مرحلة انتقال ديمقراطي، لا يمكن نفي آثاره في إقرار الحريات، وتأكيد الحقوق المدنية للمواطن، على الأقل في جانبها النظري، إلا أن خيال النخبة السياسية ظل عاجزا عن ابتداع حلول للمشكل الاجتماعي، ناهيك أن البلاد ما زالت تحافظ على منوال التنمية المتوارث من زمن حكم زين العابدين بن علي، والذي ثبت فشله واقعيا باندلاع ثورة 14 جانفي 2011، فالحلول الاقتصادية ظلت تراوح مكانها بين خضوع لاشتراطات صندوق النقد الدولي وضغط النقابات التي تمثل شريحة موظفي الدولة، ما أحدث أزمة ميزانية، تراوحت بين تضاعف الديون الخارجية وتضخم كتلة الأجور التي تلتهم الجزء الأكبر من ميزانية الدولة، في مقابل العجز التام عن إيجاد خطط لإنتاج الثروة وموارد جديدة يستفيد منها المواطن التونسي. ولأن الجمهور لا يفهم لغة الحسابات والأرقام الرسمية، ولا اللغة الخشبية للنخبة السياسية، لم يكن أمامه سوى الشارع للاحتجاج، وأحيانا من خلال سلوك أهوج غير محسوبٍ في ظل غياب أي تنظيم.
كشف تطور الأحداث عن حالة فشل النخبة السياسية الحالية في تونس، سواء تلك المنتظمة في أحزاب أو أولئك الذين رفعوا شعارات شعبوية من دون برامج، يستوي في ذلك أحزاب الحكم والمعارضة التي تتبادل الاتهامات من المنابر الإعلامية من دون طرح بدائل حقيقية.
الأكيد أن موجة الاحتجاجات ستمر كما مر غيرها من قبل، ولكن المطلوب ممن هم على رأس السلطة أن يراجعوا مواقفهم، فمشكلة الطبقات الضعيفة، وأيضا الطبقة الوسطى الموشكة على الانهيار، لم تكن يوما طبيعة النظام السياسي أو تغيير البرلمان أو تشكيل الحكومات، بقدر رغبتها في تغيير حقيقي يمسّ حياتها، ويؤثر على الاقتصاد والمجتمع، وهو ما يحتاج قراراتٍ حاسمة وفعّالة، تحارب الفساد والاحتكار والتهرّب الضريبي والتربّح من المواقع السلطوية والإدارية، وهو ما لم يجرؤ أي طرفٍ سياسي في السلطة أو خارجها على طرحه فعليا، وتقديمه برنامج عمل قابل للتنفيذ، وليس شعارات سياسية كاذبة، إما للوصول للسلطة أو لإطاحة الخصوم من مواقعهم، في حين تظل الحصيلة صفرا في حل الملفات الحارقة التي تمسّ المواطن في قوته اليومي.