هرّب 500 مليون دولار .. وله الشرف
يستحيل أن يحدُث شيءٌ من هذا في غير لبنان، المتفرّد، الاستثنائي في غير شأن وشأن. نائبٌ اسمه بلال عبدالله (63 عاما)، ينتسب إلى كتلة اللقاء الديمقراطي التي يتزعّمها في البرلمان اللبناني وليد جنبلاط، تسأله مذيعةٌ في تلفزيون الجديد، وبحذرٍ واحتراسٍ ظاهريْن، عما يُقال عن تهريب جنبلاط أموالا من لبنان إلى الخارج، فيردّ الرجل، بكل ارتياحٍ وثقة، إن هذا صحيح، بل ويُشهر رقما، 500 مليون دولار، هرّبها جنبلاط، لكي يساعد، في سنتين، أهلَه وبيئته ومجتمعه ومستشفياته ومدارسه و... ويستطرد النائب المحترم "لنا الشرف في هذا"، بل يفاجئنا، نحن غير الراسخين في علم التهريب اللبناني العتيد، بأن هذه حقيقةٌ "يعرفها القاصي والداني"، ما يُشعرك، أنت البعيد عن هذا المناخ الطيّب من المكاشفة والصراحة، بالحرج، ذلك أنك هنا لستَ قاصيا ولا دانيا. وتمضي المذيعة مع النائب (طبيب تجميل وأمراض جلدية)، وتستوضح منه عن سحب جنبلاط من هذه الأموال وهي في الخارج، فيجيب الرجل، عن معرفةٍ بالملفّ الذي قال إنه معنيّ به، إن هذا يحدُث، للأسف، بخسارة.
كيف أتيحَ لزعيم حزبٍ، ديمقراطي اشتراكي، سليلِ اسم تقدّميٍّ في فضاء لبنان السياسي قديما، تهريب هذا المبلغ المهول (أو هكذا يفترضُه صاحب هذا التعليق)؟ ما هي بالضبط الدواليب التي تمشي فيها الدولارات الذاهبة مهرّبةً من لبنان إلى الخارج؟ إذا أمكن لوليد جنبلاط أن يُحرز هذا "الشرف"، فكم أحرز نظراؤه في زعامات الأحزاب والطوائف والكتل النيابية من مقادير من مثل هذا "الشرف" في سنتين (أو أكثر أو أقل)؟ أليس عجيبا، أو باعثا على استفظاعٍ كثير، أن يقول نائبٌ لبنانيٌّ منتخب، على شاشة تلفزيون، باطمئنانٍ باهظ، إن رئيس كتلته النيابية هرّب نصف مليار دولار، لينتفع منها أهل منطقته، فلا يستثير هذا الأمر فضول صحافة البلد الذي طالما حُسبت الصحافة من أهم صناعاته. لم يقع كاتبُ هذه الكلمات على غضبٍ أو امتعاضٍ هناك، ما قد يعود ربما، وأهلُ لبنان طبعا أدرى بشعابه، إلى "عادية" ما يفعله وليد جنبلاط وروتينيّته. وحدَه خبيرٌ ماليٌّ واقتصادي (إيلي يشوعي) قال إنه لا يعتقد أن الـ 500 مليون دولار قد ذهبت إلى مساعدة الناس. أما جنبلاط نفسُه فلم يحفل بالأمر، لم يُعِره اكتراثا، لم يعقّب أو يوضح أو ينفِ كليا أو جزئيا. كيف له أن يُبادر إلى شيءٍ من هذا، ولم يقترف صنيعا إدّا، ولا تُحسَب فعلتُه اعتداءً على مالٍ عام أو قانون، ولا تعدّ تجرّؤا على مصلحةٍ عليا تهمّ لبنان واللبنانيين. أما إذا أراد أحدٌ أن يزيد ويعيد في هذا الشأن، فلا أحد يمنعه، وفي البلد مساحاتٌ شاسعةٌ من الحرية ليقول ما يشاء عن هذا المهرّب أو ذاك من رجالات الطبقة السياسية، على ما يسمّي إخواننا اللبنانيون في بلدهم أهل الحكم والموالاة والمعارضة والمشتغلين في الشأن العام. ولك أن تُشهر ما تشاء من كلامٍ بشأن منظومة الفساد التي تحمي نفسَها بجدارة، ويتضامن الفاعلون فيها وأركانها مع بعضهم بعضا، وإنْ أظهروا على الشاشات التكاذب إيّاه.
كان ميشيل عون، إبّان مُقامه في المعارضة، يستطيب الخطابة ضد الفساد والفاسدين، ثم لمّا صار رئيس الجمهورية، وقبل ذلك وبعده، لمّا بات وزراءُ من تياره وحلفائه في غير حكومة، بات الظنّ إنه "سيشيل الزير من البير" بشأن الفساد الفادح في البلاد، غير أنه لم يُبادر إلى شيءٍ من هذا، أو أقلّه إن ذاكرة كاتب هذه العجالة لا تُسعفه بملفِّ فاسدٍ من أولئك أودَعه فخامة الرئيس في القضاء، لنلقى فلانا أو علانا من محكمةٍ إلى أخرى ملاحقا بقرائن ودعاوى وشهود ومحامين ومذكّرات ومذاكرات، فيشيع حالُه هذا شعورا بأن ثمّة في لبنان إرادةً حقّةً في معاقبة فاسدٍ هنا أو مفسدٍ هناك، مختلسٍ أو مهرّبٍ أو أزعر. وليس عون وحده رفع بيارق الحرب على الفساد في لبنان ثم هبط بها وطواها، فثّمة كل الحكومات، الحريرية وغيرها (وحزبُ الله أيضا) خيّط أعلامُها في هذه المسلّة، ثم لا شيء شوهِد، سوى أرطال من الغضب على الكلّ تراكمت عند الناس الذين جاء من بديعهم الأجمل شعار "كلّن يعني كلّن"، ويشجّعنا الأخذ به على دعوة زملاء النائب بلال عبدالله في غير حزبٍ وتكتّلٍ برلماني وتيارٍ، في الحكومة وخارجها، إلى أن يفيد اللبنانيين، وأشقاءهم العرب من طينتنا، نحن المغرمين بدسّ أنوفنا في شؤون هذا البلد الذي نحبّ، عن ملايين أخرى هرّبها هذا وذاك من "الأفرقاء"، ولو للتسرية عن نفوسنا، وقد استحالَ أن نرى مهرِّبا من إياهم في محكمةٍ أو في مساءلة.