هل الرأسمالية الأميركية ثقب أسود؟
تحتاج شجاعة انتقاد الظواهر الكبرى إلى البصيرة وكثير من الشجاعة. ومن دون البصيرة، تتحوّل هذه الشجاعة إلى نوع من التفكير بالتمني. وخلال ربع قرن مضى، ظهرت كتابات نقدية عديدة تعرّي أوجه قصور الرأسمالية الغربية، في مرحلتها الأميركية، وبخاصة بعد الأزمة المالية العالمية (2008). ولسنوات، توالت تقارير دورية عن حجم فجوة الثروة بين الأكثر غنى والأشد فقراً، ما يؤكّد أن النجاح الأميركي الاستثنائي المستمر منذ بداية القرن العشرين كشف عن ثقبٍ أسود في البناء الضخم.
وعندما ترجمتُ إلى العربية كتاب الباحثة البريطانية كاتي كوك "علم نفس وادي السيليكون"، توقفتُ طويلًا أمام عبارة أوردتها في سياق تحليلها ظاهرة انحراف شركات التكنولوجيا الرقمية الكبرى المسيطرة على وادي السيليكون من الأهداف المعلنة إلى الربح المالي غير المقيد. تقول كاتي كوك إن "الحداثة قلبت العالم رأسًا على عقب. لقد أقنعت الجماعات البشرية بأن التوازن هو أكثر فوضى مخيفة، وأن الجشع قوة خيرٍ لأنه يغذّي النمو".
وما وضعت الحداثة بذرته نضجت ثمرته في ثمانينات القرن الماضي عبر الأطلسي، عندما تحالفت رئيسة وزراء بريطانيا مارغريت تاتشر والرئيس الأميركي رونالد ريغان لفرض النيوليبرالية في أوسع نطاق عالمي ممكن، وكانت تلك لحظة "عولمة المصيبة". ولاحقاً، ظهرت نخبة مالية عالية عابرة للحدود الوطنية تسعى إلى إنهاء أي دور للدولة الوطنية في فرض قيود على حرية المال. وخلال الأزمة المالية العالمية (2008)، كان من التفاصيل الصادمة في التحقيقات الرسمية في وقائعها حجم الرواتب والمكافآت الضخمة التي منحها كبار المديرين لأنفسهم، وكان أحدهم يدير بنكًا انهار في الأزمة، بينما منح نفسه 42 مليون دولار مكافآت في العام نفسه الذي انهار فيه البنك. وقبل أسابيع، ثار جدل بشأن مسعى إيلون ماسك إلى أن يمنح نفسه حزمة رواتب تبلغ 56 مليار دولار، والأمثلة كثيرة.
ظهرت نخبة مالية عالية عابرة للحدود الوطنية تسعى إلى إنهاء أي دور للدولة الوطنية في فرض قيود على حرية المال
وفي الكونغرس الأميركي دار حوار ذو دلالة (سي إن إن، 20 يونيو/ حزيران الحالي) بين سيناتور ورئيس شركة بوينغ الأميركية التي تواجه إخفاقات متتالية. استجوب السيناتور جوش هيلي رئيس الشركة بشأن دخله وسبب ارتفاعه 45% في عام ليصل إلى 32.8 مليون دولار، رغم أنه قيد التحقيق بتهمة تزوير سجلات فحص طائرة بوينغ 787 وتحقيق جنائي بسبب رحلة طيران آخرى، كما حقّقت معه وزارة العدل بتهمة "التآمر الجنائي للاحتيال على إدارة الطيران الفيدرالية". وفي نهاية الحوار العنيف، قال السيناتور "أعتقد أن الحقيقة، يا سيد كالهون، أنك لا تركّز على السلامة، ولا على الجودة، ولا على الشفافية. إنك تحاول انتزاع كل ربح ممكن من هذه الشركة. وبالنسبة للشعب الأميركي، هو في خطر. وموظّفوك وعمّالك مهددون. ويخشى المبلغون عن المخالفات على حياتهم حرفيًا، ولكنك تحصل على تعويض لم يسبق له مثيل".
ومدير بوينغ وجهٌ من وجوه ظاهرة متفشّية في قلب الرأسمالية الأميركية، وتنذر بعواقب وخيمة، وقد أصبح "المال غير المقيد" كلمة السر في "الأزمة المالية العالمية، 2008" وكانت فاتورتها تتجاوز خمسة تريليون دولار، وعرف هذا المال كيف ينفذ من ثغرات نظام "جماعات الضغط" المعتمد في الولايات المتحدة، حتى أن شركات وادي السيليكون، على سبيل المثال، تنفق على جماعات الضغط الأميركية ضعف ما تنفقه شركات "وول ستريت".
ومع التداخل غير المسبوق بين السلطة والثروة في أميركا، أصبح تمويل الديمقراطية من أعقد القضايا في الواقع السياسي الأميركي، والوعود التي تقدم (علنًاً) لقطاعات اقتصادية بعينها بمنحها تشريعاتٍ تمكّنها من الربح المستند إلى "فضيلة الجشع" مقابل التبرّع لحملة رئاسية أصبحت (كما حذّرت كاتي كوك) خطراً على العدالة الاجتماعية وعلى المستقبل السياسي للبلاد. وفي هذا المناخ المغرق في "الفردانية"، يعتبر حديث السيناتور جوش هيلي عن الخطر الذي يواجهه الشعب الأميركي نقطة تحوّل في لغة الخطاب عن الصيغة الرأسمالية الأميركية. وما أنجزه مبدأ "الفصل بين السلطات" في الغرب خلال أكثر من قرنين في دولة القانون مهددٌ بواقع التغوّل الكبير للمال على السلطات الثلاث، وعلى السلطة الرابعة (الصحافة). ويترافق مع هذا التغوّل "تآكل" كبير في الثروة الأخلاقية الأميركية، حيث لا اكتراث بأن ينحصر السباق الرئاسي بين رئيس سابق مدان جنائيّاً ورئيس حالي دين ابنه جنائيًاً.