هل المشكلة في "عامّية" الشافعي؟
يحتاج مسلسل "رسالة الإمام" إلى متابعة حلقاته كاملة قبل معالجته نقديا. ولذلك الكلام، هنا، ليس عن المسلسل أو صنّاعه، إنما عن تقييمات عنهما في الأيام الماضية، وهي، في تقديري، متسرّعة، وبعضها شعبوي، وأغلبها من خارج منطق التاريخ أو الدراما أو علاقتهما ببعض.
ليس الفنان مؤرّخا. الكاتب أو المخرج أو غيرهما من صنّاع الدراما التاريخية ليسوا "ناقلين" ما حدث، ولا أظن أن مؤرّخا استطاع أن ينقل ما حدث "حرفيا"، فكيف بالفنان؟ مهمة الفنان إعادة إنتاج التاريخ، معالجاته جمالية بالأساس. كما أنها، في بعدها التوثيقي، نقدية، تحاول التخفّف من إكراهات المؤسسات السياسية والدينية والاجتماعية التي أنتجت "السردية" الرائجة، لصالح سردية أكثر "إنسانية"، تاريخ من لحم ودم، وليس من سطور، وإحالات، وعنعنات. ولا يعني ذلك خطأ المؤرّخ وصواب الفنان، أو أفضلية أحدهما على الآخر، إنما اختلاف "المعالجة". وحاجة كل منهما للآخر، وحاجة المتلقّي لهما معا.
أما ما يجمع المؤرّخ والفنان فهو سؤال ما الواقع؟ أو بالأحرى ما الذي يُخبرنا به التاريخ في القرن الحادي والعشرين؟ هنا تبدو مهمّة الفنان أصعب، فهو يتحرّك في مساحات "المتخيّل"، أو ما يسمح التاريخ بحدوثه، لا ما "حكى" عنه بالفعل، ومن ذلك مشهد كلام الشافعي بالعامية المصرية، في إشارةٍ واضحةٍ إلى تبسّط الإمام، وهو ما أثار حفيظة مشاهدين كثر، واعتبروه تزويرا. وذهبت بعض تعليقاتهم، خصوصا الساخرة، إلى استحالة حدوث ذلك، على اعتبار أن العرب، في زمان الشافعي، لغتهم واحدة، فصيحة، لا لحن فيها أو عاميّة أو توازي بين لهجتين، نخبوية و"سوقية".
يشير مصطفى صادق الرافعي، في كتابه "تاريخ آداب العرب"، إلى وجود اللحن في اللغة العربية منذ القرون الأولى، وإلى كونه أصل العاميّات العربية، بل يشير إلى الكتابة عنه، ويفرّق في ذلك بين مرحلتين: الأولى في القرون الثلاثة الأولى، وتتناول لحن العامّة، والثانية بعد القرن الثالث الهجري، وفيها مؤلفات عن اللحن عند الخاصّة. ومن مؤلفات المرحلة الأولى كتاب "الفاخر في لحن العامّة" للمفضل بن سلمة، و"لحن العامّة" للفرّاء، وغيرهما. ومن مؤلفات المرحلة الثانية كتاب أبي هلال العسكري المتوفى سنة 395 هجرية، "لحن الخاصّة" وكتاب الحريري "درّة الغواص في أوهام الخواص"، وهو الكتاب الذي أكمله من بعده الجُواليقي؛ لانتشار "اللحن" بين خواصّ العلماء والأدباء، في كتابتهم لا في أقوالهم. أما العامّة فكانت لغتهم، وفق الرافعي، لغة في اللحن لا لحنًا في اللغة. كذلك أشار خليل مردم في كتابه "أئمة الأدب" إلى تعمّد الجاحظ اللحن في نقل أحاديث الناس، ليحافظ على روايتها كما نطق بها أصحابها. أي أن إمام الفصاحة العربية لم يتحرّج من اللحن (كتابة)، ورأى، كما لفت طه حسين، أنه لا حرج في ذلك إذا دعت الحاجة إليه.
لا يحتاج الشافعي إلى شهادةٍ على فصاحته، ولا يحتاج صنّاع المسلسل إلى من يخبرهم بذلك، فهو معروفٌ ومشهور، يُخبرك به "أي كتيّب" تعريفي عنه، لكن كثيرين من مشاهدي المسلسل يحتاجون إلى التفريق بين اللحن خطأ أو عجزا، واللحن مزاحا وتبسّطا ومجاراة، وهو ما "يسمح" به السياق التاريخي، وفق إشارات الرافعي ومردم وطه حسين وغيرهم، واستفاد منه المؤلف، بـ "شطارة"، ووظّفه، فكان من "أجمل" مشاهد المسلسل.
هل يعني ذلك أن مسلسل "رسالة الإمام" جيد؟ ليس بالضرورة، لكنه يعني أن تتفيه نقد المسلسل واختزاله في مشهدٍ لطيف، يستحق الإشادة لا النقد، أو أخطاء عادية مثل ظهور طوب أحمر في أحد الكادرات، وهو ما يحدُث في مسلسلات عالمية، ( كوب ستاربكس في مسلسل "غيم أوف ثرون" نموذجا) فيه خدمة، "حقيقية"، للمتسبّب الرئيس في تراجع "كل شيء" في مصر، ذلك لأنه لا يمكن تفسير تراجع الدراما المصرية، في السنوات الأخيرة، من دون النظر إلى الأسقف الأمنية "المرعبة" التي تتحرّك تحتها. من هنا يبدأ نقاشٌ جادّ، لا شغب، على طريقة اللجان الإلكترونية.