هل تتغير السلفية؟
أثار قول ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، أخيرا، إنه "عندما يأتي شخص ليطبق عقوبةً بحجّة أنها عقوبة شرعية، وهي لا يوجد لها نص واضح في القرآن، أو في الحديث المتواتر، فإنه يعد تزييفاً للشريعة"، جدلاً واسعاً ليس بشأن شرعية استبعاد أحاديث الآحاد مرجعية للتشريع وحسب، بل حول إمكانية إدخال تغييرات فقهية على المذهب السني السلفي بأوامر سياسية، إذ بينما احتفى خصوم السلفية بتصريحات الأمير السعودي (حتى لو كانوا يخالفونه سياسياً)، فقد أثارت التصريحات حفيظة من يمكن تسميتهم "رجال الدين" السلفيين في العالم العربي.
ويبدو أن "رجال الدين" هؤلاء أدركوا أن احتفاء خصومهم بالدعوة إلى وقف التشريع على الأحاديث النبوية المتواترة (التي رواها جماعة عن جماعة بدون انقطاع)، عوضاً عن أحاديث الخبر أو الآحاد (التي رويت عن طريق أفراد)، ليس غرضها إصلاح الإسلام وتخليصه من حركات العنف التي تدّعي الانتساب إليه كما يعلنون، وإنما تقع في خانة التنافس الفكري والسياسي بين التيارين، العلماني والديني، المستمرة في العالم العربي منذ منتصف القرن التاسع عشر، حين انفتحت الثقافة العربية على تجارب النهضة الأوروبية، وعلى الاستعمار العسكري الأوروبي، في وقت متزامن.
يدرك رجال الدين السلفيون أن التيار العلماني غير الديني في العالم العربي يأمل أن يتيح تعديل السلفية إطاحة التيار السياسي الديني
بكلمات أخرى، يدرك رجال الدين السلفيون أن التيار العلماني غير الديني في العالم العربي يأمل أن يتيح تعديل السلفية إطاحة التيار السياسي الديني. لذلك، أظهروا دفاعاً شديداً عن مرجعية أحاديث الآحاد، ليس تمسّكاً بتلك الأحاديث فقط، حتى وإن كان معظم التشريع الإسلامي الراهن مبنيا عليها، بل أيضاً دفاعاً عن نفوذهم على المجتمعات العربية، باعتبارهم التيار السياسي الأكثر قبولاً جماهيرياً في العقود الأخيرة، كما أظهرت أكثر من انتخاباتٍ محليةٍ في عدد من البلدان العربية، كلما كانت نزيهة، منها الجزائر ومصر والأردن.
وهذا يعني أن التيار السلفي الشعبي في البلاد العربية لن يكون متعاوناً مع قرار سياسي تتبنّاه أي دولة، باستبعاد أحاديث الآحاد من التشريع، ما يعني أن خطاباً شعبياً، عبر خطب الجمعة والدروس الدينية والقنوات غير المسيطر عليها من الحكومات العربية، سيكون متمسّكاً بشرعية ذلك النوع من الأحاديث، فضلاً عن أن حكوماتٍ عربيةً عديدةً سوف تتجنّب الخوض في هذه المسألة حفاظاً على صورتها الداخلية حامية للدين والتشريع الديني. ومن ثم، لا يبدو أن الصراع الإقصائي بين التيارين، الديني والعلماني، في العالم العربي، تلقى دفعة سياسية كبيرة ومؤثرة، ولا يبدو أنه يعبر نقطة تحول مهمة في تاريخه.
وما يمكن قوله هنا إن انتصار أي من التيارين على الآخر، انتصاراً نهائياً، لا يبدو ممكناً أو منطقياً، ذلك أنهما في الحقيقة يصدران من ثقافة واحدة، هي "الثقافة الأبوية" القائمة على التنميط والإكراه، فالعلمانية العربية توحد بين الدين ورجال الدين، مطالبة بإبعادهما معاً عن السياسة وإدارة الدولة، وهو ما تسميه "فصل الدين عن الدولة". أما السلفية التي تتّخذ فكرة "الحاكمية" منطقاً لها، فتوحّد بينهما أيضاً مطالبة بإخضاع الدولة والسياسة لرجال الدين، ومعتبرة أن تلك هي الآلية السليمة لتحكيم الشرع في مختلف جوانب الحياة، أي إقامة الدين، وهي فكرة تمنح رجال الدين هؤلاء سلطة روحية على الناس، ينصّبون أنفسهم من خلالها ممثلين للدين ومرجعية وحيدة لفهمه، ويبرّرون ذلك بأن يطلقوا على أنفسهم تسمية "العلماء".
يتحقق التوازن بين فصل رجال الدين، وليس الدين نفسه، عن الدولة، والحفاظ على حضور الدين فيها وفي المجتمع
وهذا يعني أن التدخل السياسي الذي يمكنه أن يُحدث تغييراً حقيقياً ليس تدخلاً فقيهاً سيكون مرفوضاً أياً كانت مضامينه، بل تدخل ثقافي، يعالج الاستراتيجيات الإقصائية ذات الجوهر الانتهازي التي يتبعها كل من التيارين، الديني والعلماني، فاستراتيجية السلفية الدينية التي تتبنّى سلطة رجال الدين تقوم على تحكيم شرع الله، للحصول على مرضاة الله تعالى، ومن ثم استجلاب نصره، بمعنى أن الفاعلية، في نهاية المطاف، ليست بشرية، ولا تقوم على أساس الأسباب والمسبّبات، ويستتبع ذلك أن تكون النهضة العلمية والثقافية والفكرية غير مهمة، إذ من الممكن أن ينتصر العرب في ظل تخلفهم الحضاري إذا تمكّنوا فقط من استجلاب نصر الله. أما استراتيجية التيار العلماني فتستند إلى تقليد التطبيقات اللادينية التي نجحت في أوروبا، فهي إذن "تعولم" اللادينية وتجعلها شرطاً للنهوض، ولا تصدُر بالضرورة من الحاجات الحضارية المعاصرة للعرب.
أما جوهر التدخل الثقافي فهو التفريق بين الدين ومن ينصبون أنفسهم ممثلين له، فمن غير الممكن موضوعياً، ولا من المصلحة، استبعاد الإسلام عن الحراك الاجتماعي والسياسي في العالم العربي، لأنه يمثل مرجعيةً حضاريةً متجذّرة، لكن من المصلحة استبعاد "رجال الدين" من تولي شؤون السياسة والوصاية على حياة الناس ويومياتهم، إذ حين يدّعي واحدُهم امتلاك السلطة الروحية على الناس، فإنه سيكون بالضرورة مستبدّاً برأيه ولا تجوز مخالفته، وهذا ما يكرّس الاستبداد السياسي الذي يمثل اليوم في العالم العربي أحد أهم أسباب التخلف الحضاري.
لا يجوز أن تجتمع سلطة السياسة وسلطة التعالي الروحي في يد واحدة، وهذا هو المدخل الأساسي للإصلاح الديني
ويتحقق التوازن بين فصل رجال الدين، وليس الدين نفسه، عن الدولة، والحفاظ على حضور الدين فيها وفي المجتمع، من خلال جعل فاعلية الدين مسألةً غير إكراهية، بل تخضع لاختيار الناس، فلا يدّعي أحد النطق باسم الله، ولا يسعى إلى تنميط كل الناس على هواه. بهذا تكون فاعلية الإسلام قائمةً على مصالح الناس، ما يعني ليس فقط استبعاد المفاهيم الخاطئة التي تتعالى على الواقع، بل الأهم من ذلك دفع الناس إلى الانخراط في العملية التنموية في بلدانهم، عبر الاستجابة لخياراتهم، والتعامل الموضوعي مع ظروفهم وثقافتهم وحاجاتهم.
في العادة، يحرّم "رجال الدين" السلفيون أي جدلٍ حول المفاهيم الثقافية وغير الثقافية التي تكرّس سطوتهم على الناس، ويحصرون التفكير فيها بذواتهم وشخوصهم، بدعوى تخصّصهم فيها وعدم تخصّص غيرهم، في وقت لا يتورعون عن التدخل في كل الشؤون الأخرى، بما فيها السياسية، على الرغم من أنهم ليسوا متخصّصين فيها. المنطقي إذن أن يجري تحريم السياسة على رجال الدين، بدعوى التخصّص أيضاً، فلا يجوز أن تجتمع سلطة السياسة وسلطة التعالي الروحي في يد واحدة، وهذا هو المدخل الأساسي للإصلاح الديني.