هل تجنح مدريد إلى الحكمة مع الرباط؟
يعرف ملف العلاقات بين المغرب وإسبانيا منذ أسابيع إيقاعا سريعا من التفاقم والتأزّم. تعدّدت الأسباب والتحاليل. واستنجد الخبراء وصنّاع الرأي العام بالتاريخ والجغرافيا ومقتضيات الجيو-استراتيجيا ومنطق المصالح والمقاربات الأمنية. ورسم المختصون، ومن يفترض فيهم أنهم مطّلعون على خبايا الأمور سيناريوهاتٍ قد يصل بعضها إلى القطيعة الدبلوماسية. ومثير للاهتمام ما نشرته وبثته وأذاعته وسائل الإعلام، على اختلاف أنواعها، في الضفتين، وفي مناطق أخرى معنية بالأزمة، وخصوصا في أهم دولتين في الاتحاد الأوروبي، فرنسا وألمانيا.
لما حدث جذور في التاريخ، وتطور طبيعي لسلسلةٍ لامتناهية من الأحداث التي حادت عن جادّة الصواب، وساهمت في إذكاء التوتر والتوجس وتكريس أجواء عدم الثقة. ولتغيير هذا المنحى، بذل من أجله الراحل الملك الحسن الثاني والعاهل الإسباني السابق خوان كارلوس جهودا واجتهادات. وتم التفكير في آلياتٍ كان من شأنها أن تُحدث تحولا نوعيا في العلاقات الثنائية، وقادرة على إقناع المؤسسات الإسبانية، وخصوصا الجيش، بضرورة التعاون والتفاهم والتواصل مع المغرب، لاعتباراتٍ كثيرة، أهمها ضمان أمن منطقة البحر الأبيض المتوسط. وحتى عندما كان يطرح ملف سبتة ومليلية المحتلتين وعدد من الجزر في الضفة الغربية للبحر الأبيض المتوسط، فإن قيادتي البلدين كانتا تحرصان على إبقاء مساحة من الود والانفراج. وفي هذا السياق اقترح الحسن الثاني إحداث خلية مشتركة مغربية ــ إسبانية، للتفكير والتأمل، قصد إيجاد حل لمشكلة المناطق المحتلة. ولكن الاقتراح قوبل بالتجاهل وعدم التجاوب من الحكومة والدولة الإسبانيتين. وسبق للملك محمد السادس أن قال، في خطاب العرش في طنجة سنة 2002، إن المغرب لم يتوقف، منذ استقلاله، عن مطالبة إسبانيا بإنهاء احتلالها سبتة ومليلية والجزر المجاورة المغتصبة في شمال المملكة، سالكا في ذلك سبيل التبصّر والنهج السلمي الذي جسّده الاقتراح الحكيم لوالده الراحل الحسن الثاني. وعبر عن أسفه عندما قال "لم نجد آذانا صاغية من لدن الطرف الإسباني لتسوية وضع هذه الثغور المغتصبة التي تحوّلت إلى مراكز لاستنزاف اقتصادنا الوطني، وقواعد للهجرة السرّية، ولكل الممارسات غير المشروعة". واللافت أنه أصبح من مطلقات حكومة مدريد ومسلّماتها الاستعمارية، أنه كلما طرح مسؤولون مغاربة ملف المناطق التي تحتلها إسبانيا، صعّدت الأخيرة من لهجتها، وعبّأت منظومتها الإعلامية وأجهزتها الاستخباراتية، وجنحت إلى خيارات درامية، لتأزيم الموقف، بما في ذلك المعاكسة العلنية لجهود المغرب ومساعيه في الدفاع عن وحدته الترابية، ووضع حد لنزاع الصحراء، في إطار مشروع الحكم الذاتي داخل السيادة المغربية.
إرادة وعقيدة مؤسساتية سياسية وعسكرية وإعلامية في إسبانيا لإنعاش الخطاب الاستعماري، وتغذية الصور النمطية التي تلصق بالمغرب، باعتباره العدو الأول
من هنا، يمكن أن نستنتج أن العلاقات المغربية – الإسبانية معقدة ومتداخلة الأبعاد، وملفاتها متشعبة، فالأمر لا يقتصر على مجرّد زوبعة عابرة، ناتجة عن تعارض مصالح ظرفية، واحتقان أمزجة سياسية، ترى نصف الكأس في ما يحدث من انهيار منهجي للثقة بين البلدين. بل هناك ما يمكن أن نسميها إرادة وعقيدة مؤسساتية سياسية وعسكرية وإعلامية في إسبانيا لإنعاش الخطاب الاستعماري، وتغذية الصور النمطية التي تلصق بالمغرب، باعتباره العدو الأول، ومصدر كل المشكلات والمصائب التي يمكن أن يُبتلي بها الشعب الإسباني. وتعود أسس هذا الخطاب وجذوره إلى وصية ملكة قشتالة، إيزابيلا الأولى، التي أوصت بعدم التردّد في تنصير المغرب. والخير كل الخير في أن يكون المغرب مشتّتا وجاهلا وفقيرا ومريضا على الدوام. وهذه الوصية التي تأخذ أبعادا من القداسة نفّذت حرفيا من خلال احتلال سبتة ومليلية وجزر أخرى، في وقتٍ كان فيه المغرب يعيش حالة من التصدّع والتفكّك بسبب الصراعات على عهد الدولة الوطاسية. واستمرّ المنطق نفسه ساريا إلى حين انعقاد مؤتمر الجزيرة الخضراء سنة 1906 الذي، بموجب أوفاقه وتفاهماته، تم اقتسام المغرب بين فرنسا وإسبانيا.
هناك قرائن ومؤشّرات يمكن الاستئناس بها، للاقتراب أكثر من تقلبات العلاقات المغربية – الإسبانية واضطراباتها، وفهم دواعي المواقف المعادية للمغرب، سواء بالنسبة لملف الصحراء أو سبتة ومليلية. وهنا لا بد أن تُستحضر المشاريع الضخمة التي أنجزها المغرب، مثل ميناء طنجة المتوسط بالمغرب الذي احتل المركز 24 في العالم، والثاني عربيا بعد ميناء جبل علي في دبي. وقد أثر موقع ميناء طنجة المتوسط الاستراتيجي سلبيا على نشاط الموانئ الإسبانية. وقد ألقى الملك محمد السادس خطابا سنة 2003 أكّد فيه أن "المغرب بهذا المشروع يعمّق جذور انتمائه للفضاء الأورو - متوسطي ولمحيطه المغاربي والعربي، ويعزّز هويته المتميزة كقطب للتبادل بين أوروبا وأفريقيا، وبين البحر المتوسط والمحيط الأطلسي". وهناك ميناء الناضور غربي المتوسط الذي يريد المغرب أن يجعل منه رأس الحربة في صناعة البتروكيماويات الوطنية، وينتظر أن تنتهي أشغال بنائه سنة 2022. وستشكل هذه المنشأة مصدر إزعاج لإسبانيا والجزائر معا. ويضاف إلى هذين المشروعين الضخمين ميناء الداخلة الأطلسي في الصحراء، ويتوقع أن يكون محطة رئيسية للأسطول الدولي في الملاحة البحرية العابر للأطلسي، ومنافسا قويا لموانئ جزر الكناري الإسبانية. كما أنه مرشّح لجلب استثمارات ضخمة في المستقبل.
استفحلت الأزمة بعد استقبال إسبانيا زعيم بوليساريو، إبراهيم غالي، للعلاج من "كوفيد – 19"، من دون إخبار الرباط بذلك
رأت أسبانيا، دولة وحكومة وشعبا، في هذه المشاريع الاستراتيجية الكبرى، ضربة ممنهجة ومبرمجة، موجهة لضرب اقتصادها ونشاطها التجاري العابر للقارّات، وشل موانئها في المتوسط والأطلسي. وللتصدّي لهذا الاختيار الاستراتيجي الذي يراهن عليه المغرب، عمدت مدريد إلى الانتقام منه على أكثر من مستوى وجبهة، فانتقلت إلى السرعة القصوى، عندما أعلنت إسبانيا معارضتها قرار الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، اعترافه في ديسمبر/ كانون الأول الماضي بسيادة المغرب على الصحراء، على غرار ما فعلت الجزائر. ولترجمة عدم اعتراف مدريد بمغربية الصحراء، رفض الجيش الإسباني المشاركة في المناورات العسكرية "الأسد الأفريقي 2021″، التي يحتضنها المغرب، وستنطلق في الأيام القليلة المقبلة، وتجري كل سنة، وتشارك فيها تسع دول، في مقدمتها الولايات المتحدة. ولئن برّرت وزارة الدفاع الإسبانية القرار بعدم وجود ميزانية خاصة لهذه المشاركة، فإن صحيفة "البايس"، المحسوبة على الحكومة، قدّمت تفسيرا آخر، حيث ارتأت أن قرار الرفض يعود إلى إجراء جزءٍ من هذه المناورات في منطقة المحبس التي تقع في الصحراء. وبالتالي، فإن أي مشاركةٍ للجيش الاسباني هي اعتراف بسيادة المغرب على الصحراء التي كان يستعمرها إلى حدود سنة 1975. وكانت هذه المناورات تجري في منطقة طان طان جنوب المغرب، ولأول مرة ستشمل منطقة الصحراء. ويندرج هذا التطور في إطار الاعتراف الأميركي بسيادة المغرب على هذه المنطقة. ومن شأن هذا الموقف غير المعهود أن يصبّ مزيدا من الزيت على الأزمة المتفجرة بين البلدين. وكان لافتا استغلال وزيرة الدفاع الإسبانية مارغريتا روبلس، الاحتفال باليوم الوطني للجيش، السبت 29 مايو/ أيار، لتمرّر رسالة تهديدٍ جديدة إلى الرباط، حيث طلبت من المغرب احترام إسبانيا، وعدم استعمال القاصرين لتجاوز الحدود، ما اعتبرته انتهاكا للقانون الدولي. كما طالبت المغرب باحترام إسبانيا، حتى يحظى بدوره بالاحترام. وسبق للوزيرة أن وجهت انتقادات شديدة اللهجة للرباط، الأسبوع الماضي، قائلة "على المغرب عدم اللعب مع إسبانيا".
مؤكّد أن الأزمة استفحلت، بعد استقبال إسبانيا زعيم جبهة بوليساريو، إبراهيم غالي، للعلاج من "كوفيد – 19"، من دون إخبار الرباط بذلك، فقرر المغرب سحب سفيرته من مدريد احتجاجا على ما اعتبرها تجاوزات. وكانت النقطة التي أفاضت الكأس دخول غالي بجواز سفر مزور وهوية منتحلة. ولم تستبعد الرباط أن تكون الجزائر شريكا في هذا السيناريو. وتعزّزت لديها قناعةٌ مفادها بأن رئيس الحكومة الإسبانية فضل التنسيق مع النظام الجزائري، على الرغم من أن إسبانيا تعتبر الشريك التجاري الأول بالنسبة للمغرب. وبدأ التقارب الإسباني – الجزائري على حساب المغرب، بسبب الغاز الطبيعي وملف الصحراء. ومعلوم أن وزير الخارجية الجزائري، صبري بوقادوم، زار مدريد، قبل أيام من توجه زعيم "بوليساريو" إليها، ما يرجّح فرضية وجود اتفاق بين الطرفين، لنقل غالي سرّا من دون إخبار السلطات المغربية.
هل تجنح مدريد إلى الحوار والاعتذار والسلم والحكمة، وتنتصر لمبادئ حسن الجوار ومنطق المصالح المشتركة، وتقبل بمخرج يعيد الاعتبار للمغرب، عوض التعنت؟
وتحصّنت إسبانيا بالاتحاد الأوروبي في مواجهتها الحزم المغربي، وسعت إلى زجّ هذه المنظومة، في أزمةٍ هي من إنتاج إسباني خالص، وتحمل براءة اختراع مدريد. لذلك حرص وزير الشؤون الخارجية المغربية، ناصر بوريطة، على توضيح طبيعة الأزمة، عندما قال، لوسيلة إعلامية فرنسية، إنه ليس لدى المغرب أي مشكل مع الاتحاد الأوروبي، بل لديه مشكل مع إسبانيا في قضيةٍ تمسّ مصالحه العليا. والأمر متروك لهذا البلد لإيجاد الحل، وحمّل مدريد مسؤولية التوتر الحالي. وهدّد رئيس الدبلوماسية المغربية بالتصعيد ضد إسبانيا، في حال عدم امتثال إبراهيم غالي للسلطات القضائية. وإذا كانت إسبانيا تعتقد أن حل الأزمة يمر بإخراج غالي بالإجراءات نفسها، فذلك يعني أنها تبحث عن تسميم الأجواء، وعن تفاقم الأزمة أو حتى القطيعة. واعتبر بوريطة ما قامت به إسبانيا فعلا مخالفا لمصالحها، ولا يحترم كرامة الضحايا من مواطنيها، وأضاف أن الاعتبارات الإنسانية المطروحة ذريعة كاذبة، لأن الإنسانية لا تعني أن تناور وراء ظهر الشريك، أو أن تزوّر جوازات السفر، أو أن تلغي حقوق الضحايا، وتعطل تفعيل العدالة، كما أن الإنسانية ليست أن تخطط ليلا ضد شريك، وتطلب منه في اليوم التالي أن يكون مخلصا.
ذات حوار مع صحافي فرنسي، قال الملك الراحل الحسن الثاني ما مفاده إن إسبانيا هي المسؤول الأكبر عن الدماء التي سفكت في الصحراء .. هل تجنح مدريد إلى الحوار والاعتذار والسلم والحكمة، وتنتصر لمبادئ حسن الجوار ومنطق المصالح المشتركة، وتقبل بمخرج يعيد الاعتبار للمغرب، عوض التعنّت والهروب إلى الأمام، وتعريض منطقة حسّاسة لتصدّع جيو-استراتيجي وأمني غير مسبوق؟