هل تصلح الدولة للعناية بالتراث
يرى الباحث والمؤرّخ المغربي، عبد الأحد السبتي، في كتابه الطريف "من عام الفيل إلى عام الماريكان .. الذاكرة الشفوية والتدوين التاريخي" (منشورات المتوسط، ميلانو، 2022)، أن الكتابة والبحث في التاريخ الحديث للمغرب لا يزالان ضعيفين ودون المستوى، وهي خلاصة يشاطره الرأي فيها مؤرّخون آخرون، كالعلامة المختار السوسي الذي سبق إلى تأكيد هذه المسألة، عندما تحدّث عن أسباب تناوله تاريخ منطقة سوس في جنوب المغرب، في تقديم موسوعته "المعسول"، والتي حصرها في جهل الكثيرين من المغاربة قبل غيرهم من الأجانب بكل متعلقات هذه الجهة الهامة من بلاد المغرب، التي طاولها النسيان والنكران والتهميش.
سبب إيراد هذه الملاحظات، الوعي بأننا مجتمعات لم تستوعب بعد كينونتها الثقافية والتحولات التي طرأت عليها، رغم كل التغيرات التحديثية التي قد تظهر في الواجهة، بالأخص تحولات المرحلة الاستعمارية وما تلاها من تأسيس الدول القُطرية، ولذا، نلحظ تشوّشا كبيرا عند مواطنينا في كيفيات استيعاب مكونات هويتنا الوطنية واستيعاب اختلافاتنا الإثنية وكيفية تدبير ذلك، وتشوشا مضافعا في العلاقة بالسياسي وغير المسلم المدعو غريبا عن جسم الأمة.
في أعمال الدورة 17 للجنة الحكومية لصون التراث الثقافي غير المادي التابعة لليونيسكو، في 28 الشهر الماضي (نوفمبر/ تشرين الثاني) في الرباط، وبحضور المديرة العامة لليونيسكو أودري أزولاي، وجه عاهل المغرب، محمد السادس، رسالة إلى المشاركين فيها، من أهم ما تضمّنته إعلان إحداث مركز وطني للتراث الثقافي غير المادي، وحدّدت مهام هذا المركز في الجرد المنهجي للتراث الوطني في مختلف مناطق المملكة، وإنجاز قاعدة بيانات وطنية خاصة بذلك، وتنظيم تكوينات علمية وأكاديمية في الموضوع، وتتبع نجاعة الآليات المعتمدة للحفاظ على العناصر المغربية المدرجة على قوائم التراث العالمي، وإعداد ملفات الترشيحات الخاصة بالبلد، وأخيرا، رقمنة الموروث الثقافي ومكونات التراث اللامادي.
فهم الحركة الثقافية وبنيات المجتمع وتداخلاتها ليس مسألة متروكةً للأكاديمي، يقولها فيها كيف يشاء
واضح أن الدولة المغربية قد بدأت تستشعر أخيرا أهمية هذا التراث على المستوى الدولي، وقيمته ليس فقط الاعتبارية والحضارية، بل والمادية حينما يتم توظيفه بالشكل الصحيح في ميادين عدة، قد تشمل السينما والرياضة والفن والصناعات والتكنولوجيا وغير ذلك. ولكن هل تصلح الدولة للعناية بالتراث الثقافي اللامادي؟ وهل يحق لها الاستئثار بهذا الدور؟
لنستطيع فهم السؤال جيدا، وفهم مراميه البعيدة، لا بدّ أن نتذكّر أحداثا ذات صلة بمحاولات فهم الجوانب الثقافية والتراثية اللامادية في المغرب، وعلى المستوى الأكاديمي تحديدا، والتي تبيّن أن المؤسسة الرسمية عندما تتولّى هذه المهمة، فإنها دائما ما تربطها بمصالحها، وبما يخدم أجنداتها، فتكون النتيجة تفضيل جانبٍ على آخر، والقفز على رمزياتٍ ثقافية عديدة، وتهميش قصدي لتراث لا مادي مهم.
نتذكّر عودة السوسيولوجي المغربي عبد الكبير الخطيبي (توفي في 2009) من فرنسا، وتوليه مهمة إدارة معهد علم الاجتماع، في سعي مغربي طموح إلى تخليص السوسيولوجيا من النزعة الاستعمارية، حسب عبارة الباحث مراد الخطيبي، وفي إطار ما سمّي علم اجتماع ما بعد استعماري Sociologie post-colonial، مع نخبة من الشباب المغربي الطموح، والذي وصف باليساري، لكن سرعان ما سيتم إغلاقه عام 1970، بعد سنة من أشغاله. ومن خلال مطالعة سريعة لما كتب عن الأمر، يستخلص المتابع أن فهم الحركة الثقافية وبنيات المجتمع وتداخلاتها ليس مسألة متروكةً للأكاديمي، يقولها فيها كيف يشاء، ما دامت تجعل من المواطنين أو قد تكون كذلك، واعين بعلاقاتهم الاجتماعية وتحوّلاتهم الثقافية، ويعون جيدا مستقبل نسيجهم الجمعي، فالسلطة تخاف هذا النوع من البحوث من دون شك، كانت كذلك ولا تزال! لأن تطوّره يجلب، في تصورها، مشكلاتٍ هي في غنى عنها. وعند تقديمنا مثال السوسيولجيا هنا، لا ننفي بذلك أهمية الاشتغال الأنتربولوجي وأهميته في هذا الجانب، ودوره في كشف التحولات الثقافية التي مسّت المغرب في مختلف جهاته، وحجم الاشتغال الاستعماري كذلك في كشفها وفهمها، في مختلف أبعادها عمقا وأشدّها محلية، كما هو الحال مع "مستمزغين" كثر من الأجانب، نسبة إلى فهمهم ودراستهم وحديثهم باللغة الأمازيغية حسب لهجاتها المختلفة، كجوستينار ورونيه باسيه وغيرهما، مؤكّدين من خلال هوسهم هذا أن الثقافة والتراث اللامادي المغربي شديدا الغنى والتعقيد والتداخل، ومن أراد الاطلاع على جهودهم تلك فليرجع إلى كتاب حسن رشيق "القريب والبعيد: قرن من الأنثروبولوجيا بالمغرب".
لا نحتاج فقط الانتقال نحو الرقمنة، بل الانتقال نحو تقبل الثقافة بمختلف أبعادها والتراث اللامادي بمختلف رمزياته الدلالية
ارتباطا بالفكرة السابقة، نتذكّر أيضا حدثا آخر، اعتقال المؤرّخ والباحث علي صدقي أزايكو (توفي في 2004) عام 1982، بسبب مقالة كتبها، وكان عنوانها دالا بشكل واضح على مقصودها، وعلى التشوّش الذي ذكرناه سابقا، وهو "في سبيل مفهوم حقيقي لثقافتنا الوطنية"، وهي المقالة التي نقلها الصحافي روبير كابلان إلى صدارة صحيفة نيويروك تايمز في عدد 6 يونيو/ حزيران 1982، وعنونها بـ "المغرب بلد أمازيغي بقناع عربي"، تزامنا مع زيارة الملك الحسن الثاني آنذاك الولايات المتحدة، فكانت المقالة سببا في دخول أزايكو السجن وقضائه سنة فيه.
سبب إيراد هذه الأحداث والأمثلة التنبيه على عدة مسائل. أولا: ضرورة إشراك فاعلي المجتمع المدني، والجهات الأكاديمية المهتمة بهذا النوع من البحث، سواء في الأنثروبولوجيا والدين والتاريخ والسوسيولوجيا وغيرها، في سبيل تحديد فهم ووعي مشترك للثقافة المغربية، والتراث اللامادي.
ثانيا: لا نحتاج فقط الانتقال نحو الرقمنة، بل الانتقال نحو تقبل الثقافة بمختلف أبعادها والتراث اللامادي بمختلف رمزياته الدلالية، من دون تخوّف، ولهذا فدور المجتمع المدني هنا لا يمكن أن تنوب عنه المؤسسات، لأنه وحده من يستطيع الدفاع عن حق كل التصورات الخاصة بالثقافة ومختلف الرمزيات.
التماطل في التعريف بالجوانب الثقافية المغربية وتراثها اللامادي، والتلاعب بها، لا يمكن إلا أن يزيدا الشرخ في علاقة المغاربة بأصولهم
ثالثا: التماطل في التعريف بالجوانب الثقافية المغربية وتراثها اللامادي، والتلاعب بها، لا يمكن إلا أن يزيدا الشرخ في علاقة المغاربة بأصولهم هذه، ويجعلنا أمام أجيال ضائعة، لها رصيد ملتبس من التصوّرات المتخيلة، والمغلوطة في كثير من جوانبها. رابعا: ينبغي ألا تنحصر الأسباب الموجهة لاهتمامنا بالثقافة والتراث اللامادي، في مجرّد الحفاظ عليها من القرصنة الأجنبية أو من دول الجوار، بل هي حاجة وطنية وعربية إسلامية جامعة، محرّكها الأساسي الاستقرار الهوياتي على المدى البعيد، وتنمية هذه الموارد واستثمارها كواحد من مظاهر غنى الحياة الحضارية داخل مجتمعاتنا.
ختاما، لا بد أن نعي جيدا أن الشعوب العربية الإسلامية، بعد فترات الاستعمار، قد شهدت تحوّلا ثقافيا واجتماعيا وسياسيا مختلفا أشد الاختلاف عما كان، إن لم يكن مناقضا له في جوانب عدة. وهذا ما يعني أننا لا نزال في منطقة خطرة في علاقتنا بهويتنا التي تنبني على عنصر الثقافة والتراث اللامادي الذي يصوغ تركيبتنا الحضارية بشكل كبير.
ولا يعني هذا الكلام أن نفقد المبادرة في تأسيس هذا المركز أهميتها، ولكن نود التنبيه إلى أهمية أن تترافق مع حركية مجتمعية، تفتح الدولة لها المجال لتساهم بكل حرية وثقة، قصد خدمة هذه الثقافة والتراث اللامادي أفضل خدمة، وقصد تحويل مثل هذه المشاريع الوطنية الحسّاسة إلى فعل مدني عام، لا يختصّ بأي جهة، ولا يكرّر أخطاء الإقصاء والتهميش التي سبق تقصّدها، والتي جعلت مجتمعاتنا تقف عند نقطة ضبابية غير واضحة المعالم في علاقتهم بذواتهم الثقافية.