هل تمتد الحرب إلى فنلندا؟
دخلت المساعي من أجل انضمام فنلندا إلى حلف شمال الأطلسي (ناتو) حيز الجدّية، ولكن مع حالة التصعيد الدولية والانقسام بين المعسكرين الأوكراني الغربي والروسي، فذلك يبدو أشبه بمخاطرة كبيرة.
ليست فنلندا مجرد دولة مجاورة لروسيا، وإنما هي الدولة التي تمتلك معها الحدود الأطول (حوالي 1300 كم). وبالنظر إلى أن الحرب مع أوكرانيا انطلقت بالأساس لضمان منع الأخيرة من الانضمام للحلف، فإن تصريحاً مثل تصريح رئيسة الوزراء، سانا مارين، الذي لمّحت فيه إلى إمكانية إكمال تنفيذ خطوات الانضمام هذا الربيع يبدو مقلقاً.
يقول الساسة الفنلنديون، والذين كانوا، حتى أشهر قليلة ماضية، رافضين مبدأ الانضمام للحلف العسكري، ومفضلين البقاء على الحياد، إنهم ما عادوا يثقون بالروس، وإنهم يفضلون أن يكونوا ضمن الغطاء الأطلسي. وليس هذا الموقف قاصراً على السياسيين، حيث تفيد استطلاعات الرأي بأن الانضمام إلى "الناتو" يحظى بدعم شعبي كبير، وبلا مثيل في الممارسة السياسية الفنلندية منذ إنشاء الحلف، وذلك بسبب قناعة كثيرين بوجود تهديد روسي.
الانضمام إلى "الناتو" يحظى اليوم بدعم شعبي كبير، وذلك بسبب قناعة كثيرين بوجود تهديد روسي
بمتابعة التطورات على الساحة الأوكرانية، يمكن أن نفهم هذا التغير في نظرة الرأي العام المبني على خشية الفنلنديين أنهم إذا ما كانوا مجرّد أصدقاء غير منضمين للحلف، فإنهم قد يتركون لمواجهة مصيرهم، كما ترك الأوكرانيون، وعندها ستكون مأساتهم أكبر، للفارق في الاستعداد العسكري.
من الناحية المنطقية، لن تكون روسيا المتورّطة في أوكرانيا، والتي لم تعد تستطيع التقليل من خسائرها العسكرية (غرق الطراد موسكوفا نموذجًا)، متحمّسة لفتح جبهة جديدة، خصوصا مع التأثيرات الموجعة للحصار السياسي والمقاطعة الاقتصادية التي فرضت عليها ضمن العقوبات الأميركية والدولية، لكن المشكلة أننا نعلم اليوم أن الأمور لا تسير وفق المنطق، حيث كانت الحسابات العقلية تقول إن روسيا لن تُقدم على اجتياح أوكرانيا بسبب ما تعانيه من أزمات اقتصادية وتذمر سياسي داخلي، لكن ما حدث غير ذلك. ومهما كانت نتيجة الحرب، فالأكيد أن خسارة الأوكرانيين كبيرة، إلى درجة يصعب تعويضها، كما أن من المتفق عليه أن الفنلنديين لا يرغبون في التعرّض للمصير ذاته وتدمير بلادهم، حتى وإن تعرّضت روسيا بعد ذلك لعقوبات أو ملاحقة قانونية.
ما يظهر أن حلف الناتو، وبعكس موقفه السابق من أوكرانيا، والذي اتسم بالتردّد، متحمّس لضم فنلندا لعدة أسباب، منها الاختلافات والتباين بين كل من أوكرانيا وفنلندا في طبيعة الدولة، ففنلندا أقرب إلى دول أوروبا الغربية جغرافياً، ومن ناحية النظام السياسي المتأسس على ديمقراطية راسخة. السبب الآخر لحماس الأطلسيين هو ما تعلق بالصراع الدائر الآن، فانضمام دولة جديدة ومجاورة للحلف في هذا التوقيت يعني أن الحرب على أوكرانيا لم تنجح في هدفها الأساسي، وهو وقف تمدّد الحلف ومنعه من أن يكون أكثر اقتراباً من الحدود الروسية، ما يعني، من الناحية الاستراتيجية، أن روسيا خسرت الحرب، وإن تسببت بدمار كبير أو كثير من الضحايا.
فنلندا التي نجحت في لعب دور المحايد والمنطقة العازلة إبّان الحرب الباردة كانت مثالاً مهماً على الصعيد الدولي
على صعيد العلاقات الدولية، سوف يكون انضمام فنلندا إلى حلف الناتو أحد الانعكاسات الكبيرة للحرب على أوكرانيا، ففنلندا التي خاضت حرباً شرسة مع الاتحاد السوفييتي في ثلاثينيات القرن الماضين ما لبثت في العام 1948 أن وقّعت مع موسكو اتفاق سلام وصداقة، قضى بأن تكون بلداً محايداً عسكرياً وغير منتمٍ لأي تحالف عسكري معادٍ للروس. تعني المستجدّات أخيرا أن ذلك التاريخ الطويل من السلام، والذي التزم به الطرفان عقودا، جرى تجاوزه، وهو ما يفسّر تهديد الرئيس السابق ونائب رئيس مجلس الأمن الروسي، ديميتري ميدفيديف، حينما قال، في تعليقه على هذه التطورات، إن منطقة البلطيق لن تكون مكانًا خالياً من السلاح النووي، وأنه سيتوجب استعادة التوازن.
بلغت "الحالة الفنلندية" من أهميتها أن صارت مصطلحاً ضمن مصطلحات السياسة الدولية، يشار فيه إلى الدول الصغيرة التي تأخذ في اعتبار سياساتها مصالح جارتها الكبيرة مع الاحتفاظ باستقلالها وطريقة الحكم فيها. فنلندا التي نجحت في لعب دور المحايد والمنطقة العازلة إبّان الحرب الباردة كانت مثالاً مهماً على الصعيد الدولي.
بدبلوماسيةٍ هادئة، استطاعت فنلندا أن تكون جزءاً من الغرب، بقيمه الليبرالية واقتصاده المفتوح وديمقراطيته، لكن من دون أن تنضم إلى "الناتو"، أو أن تتعدّى الخطوط الحمر التي كانت مرسومة لها من موسكو. هذا التوازن جعل لروسيا بعض التدخلات في الشؤون الداخلية، والتي كانت الحكومات الفنلندية المختلفة تتعامل معها بقبول، متبعة ما كان يعرف بـ"مبدأ باسيكيفي"، في إشارة إلى الرئيس الفنلندي جوهو كوستي باسيكيفي الذي تولى الرئاسة بين عامي 1946-1956. وضع باسيكيفي أسس العلاقات الخارجية لمرحلة ما بعد الحرب العالمية، وأعطى فيها الأولوية لعلاقة جيدة مع روسيا، وهو ما كان يظهر في أكثر من سياسة، من قبيل الرقابة الفنلندية الصارمة ضد أي عمل يندّد بالاتحاد السوفييتي أو ينتقد النظام الشيوعي.
في الحرب الروسية الأولى على أوكرانيا في العام 2014، كان محللون يقرأون المعركة أنها من أجل تحييد أوكرانيا، أو بعبارة أخرى وضعها تحت "الحالة الفنلندية"، وهو ما كانت ترفضه أوكرانيا، وما جددت رفضه أواخر العام الماضي، حين اعتبرت أن من حقها أن تقرّر بشأن سياستها الخارجية وتحالفاتها، وهو الأمر الذي تسبّب في اندلاع الحرب.
على صعيد العلاقات الدولية، سوف يكون انضمام فنلندا إلى "الناتو" أحد الانعكاسات الكبيرة للحرب على أوكرانيا
يبرز هذا الاستعراض حجم التحول الذي أفرزته الأحداث في الشرق الأوروبي، وكيف أن دولة مسالمة مثل فنلندا بدأت في إعادة حساباتها، آخذة في الاعتبار أن تخلّي أوكرانيا عن سلاحها النووي لم يجعلها محلّ حماية الجميع، بقدر ما جعلها لقمة سائغة للطامعين. سوف نجد التحوّل نفسه عند دول أطلسية أخرى، مثل ألمانيا التي قرّرت زيادة الإنفاق العسكري، كما سنجده عند الجارة الاسكندنافية السويد التي يطرح فيها موضوع الانضمام لحلف الناتو على بساط البحث.
من الناحية العملية، يحتاج إكمال الانضمام بعض الوقت، فبالنسبة لفنلندا ولأنها دولة ديمقراطية، يجب الصبر حتى اكتمال الحلقة التشريعية والمرور عبر دعم الأحزاب والبرلمان. وعلى الجانب الآخر، حلف الأطلسي أيضاً، ومهما كان متعاطفاً أو راغباً، فإنه يأخذ بعض الوقت قبل الإعلان عن قبول عضو جديد.
المخاطرة هنا أن مجرّد بدء الإجراءات يمكن أن يعدّ سببًا كافياً بالنسبة للروس لإعلان الحرب التي لوّحوا بأنها قد تشمل رؤوساً نووية، وهذا خطر، لأن فنلندا لن تكون قد أصبحت بعد عضواً أطلسياً، أي أنها لن تكون مؤهلةً للاستفادة من المادة الخامسة التي تعد الاعتداء عليها اعتداءً على جميع دول الحلف. لحل هذه الإشكالية، يقترح أمين عام حلف الناتو، ستولتنبيرغ، تقديم ضمانات لفنلندا بمجرّد شروعها في إجراءات الانضمام، بما يكفل حمايتها أسوة بدول الحلف الأخرى، وإن لم تكن أصبحت عضواً رسمياً بعد. هنا يبرز سؤال مهم، نضعه في الاعتبار على خلفية القصة الأوكرانية: كيف يمكن الوثوق في وجود هذه الضمانات، وماذا إذا ما كانت دول الحلف، التي تشجع فنلندا حالياً على اتخاذ هذه الخطوة، تريد فقط مزيدًا من الاستنزاف للقوات الروسية، ثم تقف مكتوفة الأيدي، من دون أن تحرّك ساكنًا؟