هل تنطلق شرارةُ الربيع الفرنسي؟
تستعيد الاحتجاجات الفرنسية على مشروع إصلاح نظام التقاعد، الذي تقدّم به الرئيس إيمانويل ماكرون، صورةَ بلدٍ، كان دائما مختبراً للتحوّلات الكبرى في الغرب، بدءاً من ثورته المعلومة (1789)، مروراً بالاضطرابات الاجتماعية والسياسية التي شهدها في القرن 19، وانتهاء بأحداث مايو/ أيار (1968)، وحركة السترات الصفراء (2018). وفيما كان يُتوقع أن يؤدّي تصويت الجمعية الوطنية على مشروع القانون القاضي برفع سن التقاعد من 62 إلى 64 عاماً، إلى خفوت حركة الاحتجاجات وتسليم الشارع الفرنسي بالأمر الواقع، تتواصل التظاهرات في عدد من المدن الفرنسية بشكلٍ قد يُحدث ارتجاجاً لا تتحمّله الدولة والمجتمع الفرنسيان، في ظل تردّي الوضعين الاجتماعي والمعيشي، بسبب تداعيات الجائحة والحرب الروسية الأوكرانية وارتفاع معدّل التضخّم وزيادة الأسعار.
يشكّل اتساع قاعدة الرافضين مشروع إصلاح نظام التقاعد تحدّياً مصيرياً للرئيس إيمانويل ماكرون، ولا سيما أنه استند في تمرير المشروع إلى الصلاحيات التي يمنحها له الدستور، بدل أن يطرحه للنقاش العمومي في أفق التوصّل إلى توافق مجتمعي واسع. ويمكن القول إن تفضيل ماكرون القنوات المؤسسية والقانونية لتمرير مشروعه رسّخ صورته رئيساً أتى إلى قصر الإليزيه فقط ليخدم مصالح دوائر الرأسمال والأعمال والمصارف، من دون أن يكترث لمعاناة الطبقة الوسطى التي تشكّل عصب الاستقرار الاجتماعي.
الآن، وقد فشلت المعارضة الفرنسية في إطاحة حكومة إليزابيت بورن، وصوّت البرلمان، بغرفتيه، على مشروع القانون، تبدو الصورة قاتمة في فرنسا أمام إصرار المحتجّين والنقابات على إسقاط المشروع. وهو ما يعني أنّ الفجوة ستزداد اتّساعاً بين النخب السياسية والرأي العام، بما يعيد إلى الواجهة أسئلة الديمقراطية التمثيلية والأحزاب والنخب وجماعات الضغط والرأي العام في فرنسا والبلدان الأوروبية بوجه عام.
تصويت البرلمان الفرنسي على مشروع قانون إصلاح نظام التقاعد لا يذكّر فقط بتغوّل الرأسمالية الجديدة وقدرتها على تجفيف منابع السياسة، بقدر ما يذكّر أيضاً بصعود ما يمكن تسميته ''الاستبداد المؤسسي'' الذي يسخّر المؤسّسات الديمقراطية لتمرير سياساتٍ وتدابير تستهدف المكاسب الاجتماعية التي راكمتها الطبقة الوسطى في الغرب. وهي المكاسب التي ساعدت على تحقيق الاستقرار المجتمعي، وجعلت نمط الحياة الغربي مُغريا لملايين الحالمين في دول الجنوب بالهجرة إلى أوروبا.
منعُ الداخلية الفرنسية المحتجين من التظاهر والتعبير عن رفضهم المشروع، واتساعُ رقعة الاحتجاجات، وارتباكُ الرئيس والحكومة في التعاطي مع الأزمة وتداعياتها، ذلك كله قد يكون بدايةً لربيعٍ فرنسيٍّ قادمٍ. وما أورده استطلاعُ رأيٍ بشأن تطلع ثلثي الفرنسيين لإسقاط الحكومة يتجاوز مشكلة إصلاح نظام التقاعد، نحو معارضة النظام الاجتماعي القائم الذي يحابي الأغنياء على حساب الطبقتين الوسطى والفقيرة.
في السياق ذاته، يدرك الرأي العام في فرنسا، وفي بلدان أخرى، أنّ الإصلاح الجذري لأنظمة التقاعد يتطلب تدابير ستؤدّي، في حال إقرارها، إلى الإجهاز على هذه الأنظمة وتفكيكها. وهو ما يعني أنّ قبول الفرنسيين، وغيرهم من شعوب أوروبا، ما يُعرض عليهم من خططٍ مرحلية لإصلاح هذه الأنظمة سينتهي بتنازلاتٍ مؤلمةٍ على المدى البعيد، قد تكون سبباً في انفجارات اجتماعية واسعة يصعُب التكهن بمآلاتها. وإذا كانت أنظمة التقاعد، في عدد من الدول، تتعرّض لضغوط متنامية بسبب ارتفاع معدّلات الشيخوخة وتزايد نسب التضخّم وتردّي الوضعين الاجتماعي والمعيشي، فإنها تُعدُّ، في الوقت ذاته، أحدَ العناوين العريضة لأزمة الرأسمالية الجديدة وفشلها في حلِّ تناقضات العولمة خلال العقدين المنصرمين واجتراحِ حلولٍ تحمي المجتمعات من خطر التصدّع.
من الصعب التكهّن بشأن ما إذا كانت أزمة نظام التقاعد ستُفضي إلى إطلاق شرارة الربيع الفرنسي وخلط الأوراق أمام الرئيس ماكرون. لكنّ المؤكّد أن فرنسا تواجه أزمة سياسية ومجتمعية عميقة، خصوصاً بعد فشل التصويت على سحب الثقة من الحكومة، الاثنين الماضي، وغياب أفق لتسويةٍ بين الحكومة والمعارضة والنقابات والشارع.