هل سيتوقف الهجوم المتواصل على مونديال قطر؟
من الغريب عدم توقُّف الضخ الإعلامي وسيل التقارير والمقالات والبرامج والحوارات المتواصلة يومياً، والتي يبدو أنها لن تكفّ عن الهجوم على مونديال 2022 وانتقادات لدولة قطر، بدأت قبل 12 سنة، منذ لحظة إعلان فوز هذه الدولة باستضافة الدورة الجارية من كأس العالم، ولم تتوقف حتى بعد افتتاح المونديال وتوالي المنافسات كل يوم. والغريب أن مَعين المهاجمين لم ينضب، حتى باتوا يخوضون في كل تفصيل، مهما بلغ من الصغر، فبعد أن فرغوا من الكلام عن رشىً، لم تتأكّد، مكَّنت الدوحة من الفوز بالاستضافة، انتقلوا إلى التشكيك في قدرة الدولة المضيفة على إقامته، مروراً بالاعتراض على ظروف عمل العمّال في أثناء إشادة الملاعب والبنية التحتية المرافقة، حتى وصلوا أخيراً إلى الجمهور الذي باتوا يشكّكون في وجوده، على الرغم من احتلاله الصورة الكاملة في الملاعب والساحات، هذا الجمهور الذي وصل منه إلى البلاد عشية الافتتاح عددٌ فاق المليون ونصف المليون زائر. ويبقى السؤال: ماذا يريد هؤلاء من حملاتهم، وإلى ماذا سيصلون في حربهم الإعلامية، خصوصاً بعد نجاح الافتتاح والمباريات التي جرت وتجري وفق جداول موضوعة؟
من جديد هذه الادّعاءات التقرير الذي خرج به موقع بي بي سي نيوز عربي، في 23 الشهر الماضي (نوفمبر/ تشرين الثاني)، بشأن حقيقة المشجّعين في الملاعب والشوارع والساحات، وما إذا كانوا حقيقيين أم "مزيّفين"، على حد ما جاء في تقرير الموقع الإخباري الذي لا يتوقف عن تذكيرنا بحيادية الهيئة التي يتبع لها وحِرَفيتها. ثم يتساءل إن كانت قطر قد دفعت أموالاً لبعضهم للقدوم إلى الإمارة من أجل حضور المباريات. ولدى التوقف عند هذا الخبر، يجد المطالع أن التقرير وكلمة "مزيّفين" لا يثيران سوى السخرية، بسبب ما رأيناه من ازدحام الملاعب بالمتفرّجين، والساحات التي تجمَّع فيها من نفدت البطاقات من دون أن يتمكنوا من الحصول على إحداها. وتبدو تقارير ومقالات وبرامج تلفزيونية مشابهة، كأنها لا تعرف جماهير كرة القدم الغربية، إذ يمكن لأي فرد عاش في الغرب أن يلاحظ مدى عشق مواطنيه كرة القدم، ومدى إدمان كثيرين على حضور المنافسات في الملاعب، وإنْ لم يتمكّنوا ففي صالات خاصة من أجل الحصول على المتعة والبهجة والحماس. وشهدت بطولاتٌ رياضيةٌ كثيرة، ونسخ أخرى من المونديال، سفر مجموعات وأفراد مئات وآلاف الكيلومترات لكي يحظوا بمشاهدة مباراة الفريق المفضّل لديهم ويشجّعوه مباشرة على أرض الملعب. لذلك، حين وصل المونديال إلى أرضٍ عربية، هل ستتوقف هذه العادة وتكفّ تلك الجماهير عن تشجيع فرقها الرياضية، وتمتنع عن لحاقها إلى مونديال قطر، فقط لأنه جرى على أرض هذه الدولة العربية؟ تكفي مشاهدة أي مباراة في واحد من الملاعب الثمانية التي خصّصت لاستضافة الكأس لكي نكتشف عدم صحة شكوك "بي بي سي" وغيرها.
المواطنون في دول الخليج لم يعرفوا الفاقة أو الحاجة منذ عقود، بل تسعى حكوماتهم إلى توفير أسباب الحياة الكريمة لهم
وبالنسبة للرشى التي قيل إن الدولة المضيفة دفعتها لتحظى بالاستضافة، كان لدى من أطلقها 12 سنة كاملة للتحقّق منها، وكذلك فرصة رفع دعاوى قضائية بحق "فيفا" أو قطر إن توفر لها أي دليل يثبت ادّعاءها، غير أنه لم يتوفّر فبَطُلَت هذه الفرية. لن نخوض في ما ساقته الحملات الإعلامية الغربية، والخاص بحقوق العمّال، وحقوق الإنسان بشكل عام، والكلام عن عدم أهلية قطر لاستضافة المناسبة، فرئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) جياني إنفانتينو ردّ عليها في مؤتمر صحافي في الدوحة عشية افتتاح المونديال. وقد استهل كلامه باتهام الغرب بالنفاق في تقاريره الخاصة بهذه الملفات. وزاد في الأمر، حين طالب الغرب بالاعتذار لمدة 3000 سنة مقبلة عما فعله على مدى 3000 سنة خلت. ومن الواضح أنه يقصد الجرائم والمجازر والسرقات التي مارسها الغرب بحقّ الشرق، بدءاً من غزو الإغريق والغزو الروماني، مروراً بغزو الحملات الصليبية، وصولاً إلى الحروب الاستعمارية والاستعمار الجديد، غير المباشر، الذي سرق ثروات هذا الشرق، ودعم الديكتاتوريات فيه، وحرم شعوبه من التنمية والديمقراطية وتقرير مصائرها.
من جهة أخرى، يأتي ظلم ذوي القربى، من حصارٍ وانتقادات وحروب إعلامية شنّتها دول ومؤسسات عربية، وشنّها أفراد ومجموعات على وسائل التواصل الاجتماعي، معتمدين معيار الإيديولوجيا في حكمهم. من هؤلاء من يحملون الأفكار القومية، وآخرون ممن كانوا ينتمون لليسار، والذين تخلوا عن المبادئ والفكر والممارسة، واكتفوا بالشعارات التي ورثوها عن ذلك الفكر، وجعلوها مرجعيتهم في المقارنة والحكم، ما أدّى إلى خللٍ في حكمهم لم يستطيعوا إصلاحه. وهو اتجاهٌ بدأ في ستينيات القرن الماضي، وتعزّز مع اكتشاف النفط في دول الخليج العربي التي وظفته في التنمية الحضرية والتعليم وبناء الجامعات. وقد استمرّ بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وانكسار الأحلام والهجوم على النموذج الرأسمالي الذي يعتقدون أن هذه الدول تكرّسه من دون أن تسمح لمواطنيها بممارسة الديمقراطية أو السماح بحرية الرأي والتعدّد الحزبي، وغيرها من اتهاماتٍ لا يكفّون عن تردادها.
تكفي مشاهدة أي مباراة في واحد من الملاعب الثمانية التي خصّصت لاستضافة الكأس لكي نكتشف عدم صحة شكوك "بي بي سي" وغيرها
ما فات هؤلاء الذين افتقروا المنهج الذي يتيح لهم الانتقاد العقلاني، ولم يمتلكوا المعايير الصحيحة التي عبرها يستطيعون المقارنة الحقّة، أن دول الخليج التي يتهمونها بمنع الممارسة الديمقراطية لم تعادِ الإنسان فيها فتحرمه من الحقّ بالعمل والسكن والحق بالتنقل والسفر، ولم تحرمه من الحق بالحصول على تعليم جيد وعصري، كما يحصل في بلدانهم التي كانت في فترة تنادي بالاشتراكية وتزجّ الاشتراكيين في السجون. وللمفارقة، لا يجرؤ أصحاب هذه الحملات على المطالبة بزيادة مخصّصاتهم من الخبز، أو من غاز الطبخ ووقود التدفئة وساعات التغذية الكهربائية، بينما المواطنون في دول الخليج لم يعرفوا الفاقة أو الحاجة منذ عقود، بل تسعى حكوماتهم إلى توفير أسباب الحياة الكريمة لهم، وتجعل معيشتهم تضاهي معيشة أي فردٍ من أفراد الدول الأوروبية الأكثر تطوّراً.
إعماء العين عما أُنجز في مونديال قطر، وقبله ما أُنجز في دول الخليج من تقدُّمٍ معرفي وعلمي، وما وصلت إليه حال المواطن الخليجي من وفرة ورفاهية يجعل أي انتقاد يوجّه إلى هذه الدول غير محقّ، ومجافياً للمنطق، إذ لم يكن كلياً ويقارن ما أنجزته بما عليه حال بلد المنتقد. لذلك يمكننا أن نركّز على الاستنتاج الذي استنتجه إنفانتينو إن هذا الدرس الأخلاقي، أحادي الجانب، الذي لم يتوقف من سنوات، مجرّد نفاق.