هل لا يزال السيسي بحاجة للحوار الوطني؟
كل الشواهد تقول إن حاجة النظام المصري إلى ما يسمّى "الحوار الوطني" قد انتهت، أو بالحد الأدنى تقلصت كثيرًا، إلى الدرجة التي يمكن القول معها إنه لو استمرّ فسيكون مجرد حلقاتٍ من الثرثرة المملّة، لا تقدّم ولا تؤخّر.
أحد إعلاميي المرحلة قال إن جلسات الحوار ليست إلا مناسبة للكلام من دون أن تكون لها مخرجاتٌ ونتائج ملزمةٌ لرأس السلطة، بل هي حواراتٌ شعبية، قد يتم رفع محاضرها ومضابطها للرئاسة، كي تأخذها، أو لا تأخذها بعين الاعتبار فيما هي مقبلةٌ عليه من قرارات وإجراءات.
هذا المذيع كان رأس الحربة في مشروع الفاشية والإقصاء بحق معارضي السلطة، حتى صار له شريك جديد اسمه عمرو حمزاوي، الذي استلم قاموس "هجامة التوك شوز" في تناول رافضي الحوار الوطني ومعارضي السلطة من الخارج، مقدّمًا نفسه ابنًا بارًا لجمهورية الجنرال الجديدة، وأحدث مواليد الاستبداد والسلطوية، التي كانت هدفًا لا يتغيّر في كتاباته العنيفة عندما كان يعارض الانقلاب العسكري.
عمرو حمزاوي يطلّ كثيرًا، تلفزيونيًا وعبر مواقع التواصل، هذه الأيام، لاعبًا دورين اثنين: بيان روعة جمهورية السيسي الجديدة وعظمتها على مستوياتٍ عدّة، من السياسة إلى الاقتصاد، فيقول مثلًا "رأيت في الحوار والتفاوض بين الحكومة والمعارضة مقدّمة ممكنة لكي تشرح الحكومة أولوياتها الراهنة والمستقبلية في الاقتصاد والاجتماع والسياسة، وتفصل استنادا إلى معلومات وحقائق كلفة ومردود مشروعات البنية التحتية (الطرق والكباري والموانئ والمطارات وغيرها) والبنية العمرانية (المدن الجديدة) ومشروعات العصرنة (مصر الرقمية) وتطوير شبكات الضمان الاجتماعي التي صارت تصل إلى ما يقرب من 17 مليون مصرية ومصري، وتفصل أيضا في السبل المقترحة لمواجهة غلاء الأسعار ومعدّلات التضخم المرتفعة وأزمة الدين الخارجي ورفع إنتاجية القطاعات الاقتصادية الرئيسة والتعامل مع التهديدات الواردة على الأمن الغذائي، بفعل تداعيات الحرب الروسية على أوكرانيا والأمن المائي بفعل التعنت الإثيوبي في إدارة ملف سد النهضة". أما الدور الثاني، وهو الأهم، فيقوم على تسفيه المعارضة من الخارج وتخوينها، ومحاولة نزع صفة الوطنية، وحتى المواطنة عنها، وهي الوظيفة التي يؤدّيها بأناقة أكاديمية، لكنها لا تختلف كثيرًا عما يفعله كل ممسكٍ بميكروفون عقور في ليالي التلفزيون المصري.
في الحوار الذي جمع حمزاوي، ومحتسب الحوار الوطني ضياء رشوان، على إحدى الشاشات قبل أيام، بدا الأمر غريبًا ومختلطًا، فلم أعرف من فيهما الضيف ومن المذيع، ومن الذي يسأل ومن يجيب، إذ كان حمزاوي مستفيضًا وفضفاضًا جدًا في محاولة إثبات بنوته للجمهورية الجديدة، مردّدًا ما يريده رشوان من دون حتى أن يطلبه في صيغة سؤال.
على أن ذلك كله آخذ في الخمود، والانطفاء حيث لم تعد "السلطوية" بحاجة إلى صور ومشاهد ولقطات حالة ديمقراطية مزعومة لتصديرها إلى الخارج، بعد أن تجاوزت عقبة امتحان الرئيس الأميركي جو بايدن في جدة، وانطلقت منها إلى أوروبا وفي يدها شهادة حسن سير وسلوك من البيت الأبيض.
مبكّرًا جدًا، وفور أن ألقى عبد الفتاح السيسي بكرة الحوار في ملعب القوى التي تسمّي نفسها وطنية ومدنية وديمقراطية، قلت إننا بصدد ما أسميته "هذا الطقس الصناعي، الذي تدور فيه محاولة استمطار صورة ديمقراطية من سحب وهمية، أقرب إلى الخدع البصرية وألعاب السيرك، التي يمارسها النظام، تحضيرًا للمثول بين يدي الرئيس الأميركي، الذي أشاح بوجهه عنه في مناسباتٍ عدّة، ويشهر في وجهه ملف التصحّر الديمقراطي، والجفاف الضارب في حالة الحريات وحقوق الإنسان.
في جدّة، تبدّد عبوس جو بايدن في وجه السيسي، تحت تأثير عطايا النفط والتطبيع وجوائز الحرب على الإرهاب، بضاعة السيسي الوحيدة التي يشتري بها من العالم السكوت على جرائم بحق الديمقراطية والإنسانية. والآن، تحقق للسيسي ما أراد، وحصل على ما خطّط له من صور ولقطات لحالة حوار ديمقراطي كاذبة، بشهادات متعاقبة ممن تحمّسوا لدعوته في البداية، وتم المراد من بايدن والأوروبيين، وجاء وقت الإعلان عن تجميد عملية الحوار في برّادات الثرثرة.