هل مات حافظ الأسد؟
ينظر سوريون كثيرون، ومحسوبكم منهم، إلى الدولة المصرية، بدهشةٍ ممزوجةٍ بشيء من الإعجاب. يمكننا أن نُطلق على الذين تولوا رئاسة الجمهورية المصرية منذ صيف 1952 صفة "ديكتاتور"، مع وجود فروق بين واحد وآخر. ومع ذلك، بقي في مصر نظام قضائي معقول، وصحافة تَكتب، ومحطات تلفزيونية تبث، ودور نشر تطبع، ومساجلات ومناظرات هادئة أو عنيفة تُعقد. وعند المساء، يذهب كل واحد من الناس إلى بيته، يضع رأسه على المخدّة وينام. وإن كانت قد وقعت حوادث اعتداء متفرّقة على حرية الرأي، فهي تدخل في باب الاستثناءات.
مثلاً؛ كان سيّد قطب، مؤسسُ الفكر الإسلامي الراديكالي، في السجن، وجمال عبد الناصر، الذي نسمّيه ديكتاتوراً، على سروج خيله، ومع ذلك، كان سيّد قطب يؤلف كتبه داخل السجن، ويرسل مخطوطاتها إلى الخارج، لتُطبع في مجلدات، وتُنشر، وتباع. عادي جداً. وعلى الرغم مما عُرفت بالصحوة الإسلامية التي بدأت مع بداية حكم أنور السادات، كان ثمّة كتّاب ينتقدون الاجتهادات الفقهية ونشاطاتِ الجماعات الإسلامية والدعمَ السعودي لتلك الجماعات، وتُنشر مقالاتهم في الصحف، وتنشر كتبُهم من دون صعوبات تذكر. وصحيحٌ أن المتشدّدين ضايقوا قاسم أمين، وطه حسين، وعلي عبد الرازق، وعبد المتعال الصعيدي، وحتى الكاتب السعودي الذي أقام في مصر، عبد الله القصيمي، إلا أن هؤلاء الكتّاب لم يُنكل بهم على طريقة الحكم في عراق صدّام حسين، وسورية حافظ الأسد. والحق أن الوضع على أيام المَلَكية، وحكم الإنكليز، كان أكثر انفتاحاً بكثير من أيام الجمهورية، فالصحافي أبو الخير نجيب الذي انتقد الملك فاروق شخصياً لم يتعرّض لأذى، ولكنه وُضع تحت الإقامة الجبرية حتى آخر حياته، لأنه انتقد زعماء ثورة يوليو، وقال: كان عندنا ملك، وصار عندنا ملوك. وهناك حادثة أخرى لها دلالتها، أن عميد الأدب العربي، طه حسين، أحيل على القضاء بسبب كتابه "في الشعر الجاهلي" 1925، لكن القاضي محمد نور قرأ الكتاب بتمعّن، وناقش أفكاره في ضوء القوانين النافذة، وخرج بقرار أن الكتاب خالٍ من أية إساءة للمعتقدات. وحكم ببراءته.
في كل الأحوال، وضعُ الحريات في مصر، خلال العصور المتتالية، ليس مثالياً، ولكنني أردت الإشارة إلى وجود "دولة" في مصر، لها قوتها الناعمة، ومؤسّساتها التي لم تتمكّن الحكوماتُ المتعاقبة من تدجينها وإخضاعها بالكامل، خلافاً لما فعله حافظ الأسد في سورية، خلال سنوات حكمه الثلاثين، إذ تمكّن من تحويل المواطن إلى شبح "مهستر"، يمشي في الشارع ويكلم نفسه: يا ترى، إذا عملتُ كذا وكذا، هل أؤاخذ؟ وإذا طُرق باب بيته في الليل، يهبط قلبه، وترتجف ركبتاه، وتصطكّ أسنانه، وتزرقّ "شفاتيره"، دواليك حتى يوقن أن الطارق ليس من المخابرات، فيتهالك على أقرب أريكة، ويُؤتى إليه بأقرب قادوس ماء ليبلع محتوياته دفعةً واحدة.
لا يعرف السوريون النفي، بل العكس، أول شيءٍ تفعله أجهزة الأمن، حينما تضع عينها على مواطنٍ ما، منعه من السفر، وتعميمُ اسمه على منافذ الحدود، ولا يعرفون الإقامة الجبرية، ومؤكّد أن الصحافيين السوريين الذين أرسلوا إلى السجن بأمر شفوي من حافظ الأسد يحسدون أبا الخير نجيب. ولا شك أن رئيس الجمهورية السورية، نور الدين الأتاسي، كان يحلم بإقامةٍ جبريةٍ تشبه إقامة الرئيس المصري محمد نجيب. وأما الأنفار العاديون، الذين لا أسماء لهم، ولا سجلّات، المودعون في سجن تدمر، فكانوا يبكون عندما يعدم زبانية السجن مجموعة من زملائهم، ليس حزناً على زملائهم، بل حسداً وضيقة عين، لأن مَن يُعْدَمْ يَرْتَاح، ومن يبقى ستدور عليه دائرة العذاب اليومية التي لا تطيقها الجبال.
مرّت 22 سنة على موت حافظ الأسد، والسوريون المعاصرون يحسدون الذين عاشوا على أيامه، لأنها أقلّ سوءاً من أيام وريثه المهووس.