هل نحن أحرار فعلاً؟
هل صحيحٌ أنّ الطيور تدرك قيمة الحرّية أكثر ممّا يفعل البشر؟ قرأتُ العبارة التالية مطبوعةً على فاصل كُتيّب أنيق وجدتُه بين مجموعة الفواصل التي أحتفظ بها. تقول العبارة: "لا تتعجّب من عصفورٍ يهرُب وأنت تقترب منه وفي يدك طعام، فالطيور عكس بعض البشر تؤمن بأنّ الحرّية أغلى من الخبز"(!)
حكمٌ قاسٍ في حقّ البشر، الذين طالما كانت الحرّية شغفهم، وكان هذا الشغف وقودَ كثيرٍ من حركات النضال والتحرّر الإنساني في مدى التاريخ كلّه. لكن، لنقرأ العبارة من زاوية أخرى؛ كثير من البشر يسعون دائماً وراء المال والمكاسب المادّية من دون الاكتراث لقيمة الحرّية والاستقلال الذاتي، وربّما من دون أن يعترفوا لأنفسهم بذلك. الخبز هو أولوية الكائن البشري القصوى. وحتّى أولئك، الذين رتّبوا الأولويات بطريقة عاطفية بحتة، يرون أنّ ترتيبهم ليس هو الدائم المعتاد، فقالوا إنّ الحُبّ قبل الخبز، أحياناً.
لهذا، نرى بشراً كثيرين يتخلّون عن حرّيتهم ويخضعون لقيود وشروط مختلفة من أجل الحصول على لقمة العيش، فبعض منّا يقبل العمل في وظائف لا يُحبّها وتحدّ من حرّيته أو في ظروف عملٍ قاسية من أجل الحصول على الأجر المادّي فقط، بينما آخرون قد ينخرطون في أنشطة إجرامية أو غير أخلاقية لتحقيق المكاسب المادّية، وبالتالي قد يصبح التنازل عن الحرّية، أو عن مقدار مُعيّن منها، أمراً طبيعياً في مقابل الحصول على المال، خاصّة أنّ الحرّية المطلقة أو الكاملة أصلاً خرافة نتأكّد أنّها كذلك بمرور الزمن.
ولعلّ في هذا ما يُفسّر التناقض بين سلوك الطيور (ليس كلّها أيضاً) وسلوك البشر في صعيد قيمة الحرّية لديهما. والتناقض يطرح تساؤلات مُهمّة بشأن قيمنا ومفاهيمنا عن أشياء كثيرة، من بينها الحرّية والرفاهية. فهل نحن فعلاً أكثر ذكاءً وتقدّماً من الكائنات الأخرى؟ أم أنّنا قد فقدنا البوصلة وأصبحنا نُقدّر المادّة على حساب القيم الأسمى والأرفع؟ ثمّ على أيّ أساس رتّبنا هذه القيم والاحتياجات في مقياس السمو والرفعة؟
جدل فلسفي تحوّل لاحقاً جدلاً مجتمعياً ثمّ سياسياً مهمّاً. هناك وجهات نظر مختلفة بشأن أيّهما أكثر أهمّية للإنسان، الخبز والرفاهية المادّية أم الحرّية والاستقلال. ورغم أنّه لا تناقض بين الاثنين للوهلة الأولى، أي أنّ الإنسان نظرياً يمكنه أن يحصل عليهما معاً، إلّا أنّ كثيراً من مسارات الحياة الواقعية تقول إنّ الظروف تُجبرنا غالباً على أحدهما في مقابل التضحية بالآخر.
من وجهة نظر واقعية ومادّية، تأمين الاحتياجات الأساسية كالطعام والمأوى هي أولوية قصوى لبقاء الإنسان وحياته. من دون توفّر الخبز والرفاهية المادية الأساسية، لا يمكن للإنسان أن ينعم بالحرّية والاستقلال. وقد شهدنا في التاريخ كيف أنّ الجوع والفقر قد أجبرا الناس على التنازل عن حرّياتهم مقابل الحصول على لقمة العيش. ومع ذلك، هناك وجهة نظر تقول إنّ الحرّية والكرامة هي الأساس الذي يجب أن يتحقّق لكي يعيش الإنسان حياة إنسانية كاملة. فالحرّية هي أساس تحقيق الذات، والمشاركة في صناعة المصير، وكثيراً ما قدّم الناس تضحيات جسيمة من أجلّ الحرّية على حساب مصالحهم المادية.
أعتقد أنّ الحرّية والرفاهية المادّية هما متلازمتان ومتكاملتان لتحقيق الحياة الكريمة للإنسان. فمن دون الخبز لا يمكن للحرّية أن تتحقّق، ومن دون الحرّية لا يكفي الخبز لتحقيق الكرامة الإنسانية.
ونعم، تختلف أولويات الخبز والحرّية باختلاف الثقافات والديانات والعوامل الاجتماعية والاقتصادية، والظروف الطارئة والأزمات للمجتمعات وللأفراد، لكنّ التوازن بين أولويتَي الخبز والحرّية أمر حتمي، لتستمر الحياة، ويستمر البشر في قيدها.