هل نعدم فيروز ونغني وراء ضاحي خلفان؟
في اللحظة التي كانت فيها أبو ظبي تحتفل بعرس التطبيع مع الكيان الصهيوني، كان الشيخ المقاوم رائد صلاح يشقّ طريقه وسط جماهير فلسطينيي الداخل، نحو السجن الإسرائيلي مجدّدًا، بتهمة تبني الخطاب الوطني المقاوم للاحتلال المؤسس على أسطورة دينية يهودية. في اللحظة ذاتها، كان عرب بيننا يعطون دروسًا للاعب الكرة محمد أبو تريكة في طبيعة الصراع مع الاحتلال، ويعنّفونه لأنه رأى في الصراع جانبًا دينيًا مستندًا إلى النص القرآني.
هي القضية القديمة المتجدّدة التي قتلت بحثًا، وتمحيصًا وتدقيقًا، حتى باتت من الوضوح بما لا يحتمل تقعيرًا وسفسطةً من السارحين في مراعي "السوشيال ميديا"، وخصوصًا بعد أن أفنى مثقف كبير ومفكر عميق حياته كلها في إنجاز موسوعة تتوارثها الأجيال عن جذور الصراع وأبعاده وأعماقه، هو عبد الوهاب المسيري، كما أنها حسمت فقهيًا عن طريق شيوخ الأزهر والمجامع الفقهية وآباء الكنيسة، بما أضاف لقضية فلسطين الواقعة تحت الاحتلال عمقها الروحي في مواجهة عدو يسرق الأرض ويحرق البشر والشجر، رافعًا شعاراتٍ دينية خالصة، بل انبنى وعد التأسيس الصادر ممن لا يملك لمن لا يستحق على أساس ديني، بالنص صراحة على اختراع وطن لليهود على حساب فلسطين.
ليس مطلوبًا بالطبع اختزال القضية الفلسطينية في جوانبها الدينية، لكن في الوقت ذاته فإن إقصاء القيمة الروحية والعقدية لدي المسيحيين والمسلمين، الموجوعين بالجرح الفلسطيني، هو نوع من السذاجة المتواطئة، بوعي أو من دون وعي، مع سردية المحتل الذي يحيط كل أعماله العدائية الوحشية بسياجٍ ديني يبتز به العالم كله.
أتذكّر حين قرّر ترامب قبل عامين نقل السفارة الأميركية إلى القدس المحتلة أنه وضع قراره بتهويد القدس في غلاف ديني مسيحي خالص، وقد عرضتُ وقتها لمقال نشرته CNN للكاتبة الأميركية والباحثة في الشؤون الدينية، ديانا باس، تقول فيه إنها كانت قد درست الكتاب المقدس في العقد السابع من القرن الماضي بشكل مكثّف، خلال شبابها مضيفة "بالنسبة لنا لم يكن الكتاب المقدس مجرّد نص ديني، بل كان الخطة الإلهية الموضوعة للتاريخ برمته، وعرفنا عبره كيف تصرّف الله في الماضي، وكيف سيتصرّف في المستقبل".
وتنتهي الكاتبة إلى أن ترامب يريد، من خلال الاعتراف بالقدس لإسرائيل، تذكير ناخبيه من الإنجيليين، بأنه "رجل الله الذي يساهم في دفع التاريخ، كما يراه الكتاب المقدس، قدما، ويساهم في حلول نهاية التاريخ." وختمت بالقول: "ربما لا يؤمن الرئيس ترامب بهذا، لكن الملايين يؤمنون به، وهذا أمرٌ مهم، ليس للسياسة الأميركية فحسب، بل وللسلام في القدس، وكذلك لسلامنا جميعا".
أزعم إنه ليس عادلًا ولا إنسانيًا أن نطلب من المواطن العربي أن يتخلى عن رموزه الروحية في مقابل هذه الوقاحة الاستعمارية المستندة إلى مزاعم كهنوتية. وليس من الإنصاف أن نحذف أدوار عز الدين القسام وأحمد ياسين ورائد صلاح وشيوخ الأزهر والأنبا شنودة من معادلة النضال المشروع ضد اغتصاب أرض فلسطين.
ليس من المفيد أن نحذف من أرشيفنا أغنية فيروز الخالدة عن مدينة الصلاة، زهرة المدائن، التي ترحل إليها العيون والقلوب والأرواح كل يوم، لتعانق الكنائس القديمة وتدور في أروقة الأقصى.
ليس من العدل أن نحذف سورة "الإسراء" من المناهج، وأن نسخر من قدسية المسجد الأقصى مع يوسف زيدان، أو أن نشعل النار في تراث فيروز ونعتمد ضاحي خلفان المطرب الأول.
ليس مطلوبًا منا ذلك كله، وإلا ما الفرق بيننا وبين من يمارسون نخاسة الفتاوى والأفكار من مشايخ ومثقفين يتلوّنون كالحرباء و ينعقون كالغربان؟
أتذكّر أن الميديا الصهيونية نشرت، في فبراير/ شباط 2018، على "تويتر" أن الحاخام اليهودي، ميخائيل شودريخ، قوله بعد زيارته أبوظبي: "هناك جالية يهودية صغيرة ونابضة بالحياة تريد العيش هنا، وتريد أن تكون يهودية وتشعر بالراحة لكونها يهودية. وهذا شيء لم يكن واضحا قبل ثلاث إلى خمس سنوات. هذا هو خبر هائل"، فكان أول من تصدى له بشراسة قائد شرطة دبي السابق ضاحي خلفان بالقول: "اليهود يدعون إنهم يريدون العيش بسلام في وطن آمن، ولكنهم لا يقبلونه للإنسان الفلسطيني الذي سجنوه وهجروه وقتلوه، وقبل ذلك حرموه من أبسط حقوق الإنسان.. فعن أي علاقة مع العرب تتحدث؟!". ثم أضاف "تريدون التعايش السلمي وترتكبون أبشع الجرائم بحق أهلنا في فلسطين.. تناقض فظيع في الشخصية اليهودية للأسف".
ضع دكتور ضاحي 2018 بمواجهة مستر خلفان 2020 الذي يغني ويرقص محتفلًا بالتوأمة بين أبو ظبي وتل أبيب.
مرة أخرى: تبدو مزعجة تلك الأصوات التي تختطف الموضوع إلى صدام ديني، وفقط، ومزعجة أكثر أصوات تحاول حذف العنصر الديني من المعادلة برمتها.