هل يحقّ للفنّان ما لا يحقّ لغيره؟
كاتب ومحامٍ وحقوقي سوري، المديرالسابق للهيئة السورية للعدالة والمحاسبة، مقيم في ألمانيا.
لطالما كان الفن عنوان الحريّة، بل هو جوهرها وأقصى ممارسة لها في المجتمع الإنساني حسب تعبير نصر حامد أبو زيد. التوتر الكامن في الفن هو العامل الأساسي في خلق الأفكار، توتر الواقع والخيال، توتر النظرية والفرضية، توتر النور والظلام. وكلّما كانت المجتمعات أكثر انفتاحاً وتحرّراً وثراءً كان الفن أكثر تألقاً وجمالاً، فالحريّة تفتح الفضاء أمام الخيال ليحلّق عالياً من غير قيود، والخيال هو الذي نقل البشريّة على طول تاريخها من الأدنى إلى الأعلى، ومن القديم إلى الجديد، من الأرض إلى السماء. والفنانون هم الذين يصنعون المستقبل، يستشرفونه بأحاسيسهم بعيداً عن قواعد العلم المعقّدة وقوانينه المنضبطة، لكنّ هذا الاستشراف لا يخلو، بطبيعة الحال، من تمثّل منجزات العلم وهضمها لإعادة إنتاجها في أطرٍ جديدة.
يتأثّر الفنّ بالهويّة المجتمعيّة كما يؤثّر بها، فيغدو مرآةً تعكس عناصرها وجوهراً يتمثّل قيمها. تأخذ الدولة من الفن وسيلة لصناعة رموزها، وتستعين المجموعات البشرية بالفن لتعبّر عن فرادتها وتميّزها، كما يسعى الأفراد من خلال الفن للانعتاق مما يكبّلهم ويشدّهم للخلف. الفنّ نافذة البشر نحو المجهول. لذلك كان وسيبقى على تناقض وتضادٍّ دائم مع الموروث من العقائد، والسبب الرئيس في ذلك أنّ الفن يكسر القواعد ويقفز على الحواجز، بعكس العقائد التي جلّ همها تنميط العالم وتقعيد سلوكيات البشر ووضع غاياتٍ نهائيةٍ واضحة لها. لذلك كان خطاب الفنّ يواجه، على الأغلب الأعمّ، بخطاب التحريم، ليس التحريم الديني فقط، بل والسياسي أيضاً، فعندما تجد السلطة ذاتها محاصرةً بالحرية والانفتاح والأفكار، تلجأ إلى القمع، ولا يشترط أن يكون قمعاً جسدياً، فالأخير حيلة الهمج. كذلك تقمع العقائد الفن إذا لم يتوافق مع نهجها، وقد شهد تاريخ البشرية حدودا كثيرة أقيمت على الفنانين والحواجز التي وضعت في طريقهم، ولعلّ التجييش من خلال مخاطبة مشاعر بسطاء المؤمنين كان أحدّ أشدّ الأسلحة فتكاً ضدّ الفنّ والفنانين.
وجدت الجاذبية الأرضية على الدوام قبل أن يعلن نيوتن عن وجودها، وقبل أن يكتشف قوانينها، وهكذا رسالة الفن
يشترك الفنّ مع الأخلاق في أنّهما يمثلان الإجابة عن سؤال ماذا يجب أن نفعل، ذلك أنّ كليهما يسعى إلى الكمال، وهذا الأخير لا يتأتّى إلا بالواجب المفتوح على كل الاحتمالات. يسعى البشر دوماً نحو الكمال، لذلك آمنوا بالجنّة، ولخشيتهم من الفشل آمنوا بالنار. إنها مروحة الثواب والعقاب، ثنائية الطموح والإحباط، العمل والكسل، التفاؤل والتشاؤم. فكيف السبيل إلى ذلك ونحن منقوصون، وهل يمكن للنسبيّ أن يصل إلى المطلق، وهل ينفع في هذا الأمر التلاعب والمخاتلة الفكرية! الحقيقة لا أحد يعرف، ولا يمكن الإجابة عن ذلك السؤال. ولعلّ وجود الفنّ كان الوسيلة التي اخترعها البشر من دون أن يقصدوا لحلّ هذا اللغز الرهيب، لغز الحياة. لم يعدم البشر، عبر تاريخهم، أساليب التورية والكناية والإخفاء لمواجهة التيارات الرافضة كل جديد. ومن هنا كانت المدارس الفنيّة، في جوهرها، تقيّة تطرح ما لا يمكن القبض عليه متلبّساً بالجرم المشهود، بينما هي، في الحقيقة، تخفي مضامين وأفكاراً جوهرية أكثر جذرية مما يبدو عليه الأمر.
وقد كان للفنّ على الدوام رسالة، ولا يُشترطُ في حامليها أن يكونوا مدركين لها، فالأشياء توجد في الطبيعة والعلاقات في المجتمع، حتى لو لم تكُن مدركةً من البشر. لقد وجدت الجاذبية الأرضية على الدوام قبل أن يعلن نيوتن عن وجودها، وقبل أن يكتشف قوانينها، وهكذا رسالة الفن. لكنّ رسالة الفنّ ليست ذات طبيعة متعالية على المحتوى، بل تحمل قيمتها من مضمونها الذي تريد نقله وإيصاله إلى البشر، فقد تدعم رسالة الفنّ الظلمَ، أو الاستبداد أو العنصرية أو التمييز أو الاستعمار أو أي تصرّف بشري بعيدٍ عن القيم الإنسانية السليمة، وهذا ما يمكن ملاحظته في السياسة العامّة لسينما هوليوود مثلاً، عندما لعبت أدواراً محورية في شيطنة العرب والمسلمين مقابل تلميع صورة الإسرائيليين، فكانت أداةً لتكريس استعمارٍ استيطاني على حساب إنكار قضيّة شعبٍ شُرّد من أرضه، ومُنع من ممارسة أبسط حقوق الإنسانية.
في الفنّ تتجاور الخطوطُ، تتعانق في اللوحات، تتصل وتنفصل، ترسم جداريات أو تكتب معلّقات
وليس كلُ فنٍّ قيمةً جديرة بالاحتفاء، فمنه ما يمثّل التفاهة أو النكوص أو الاحتضار، كما الأدب والشعر والموسيقى والفلسفة، فهذه كلها لا تحمل قيماً مطلقة بذاتها، بل تتجلّى قيمها من خلال محتواها ورسائلها الكامنة فيها. ومع كل الحريّة التي يعبّر عنها الفن، يبقى ملزماً ببعض القواعد والقوانين، لذلك جوهره قائم على الصراع الدائم بين الحريّة والقيد، بين التحوّل والثبات، بين الحياة والموت. يحيا الفنّ بالابتعاد عن التنميط، ويموت عندما يحشر في قوالب جاهزة، لكنّه لا يمكن أن يعيش من دونها، وإلا أصبح عشوائيةً وانحلالاً.
في الفنّ، تتجاور الأشياءُ، فالألوان هنا حاضرة بكثافة أو بعزلة، مرّة بشغفٍ وشبق، وأخرى بشحّ وضمور، صارخة وباهتة، عميقة وسطحيّة. وفي الفنّ تتجاور الخطوطُ، تتعانق في اللوحات، تتصل وتنفصل، ترسم جداريات أو تكتب معلّقات. في الفنّ تتجاور الأصوات كما تتجاور الآلات الموسيقية في الأوركسترا، فتأخذ مكانها ضمنّ سياقٍ يشكّل، في النهاية، لحناً ولوناً ورسالة للمستمع. لا يُشترط في الفنّ أن يكون مفهوماً على الدوام، فجزء من جماليته تتعلق أيضاً بالإبهام والغموض، وهكذا يحاول الفنانون باستمرارٍ توسيع المحتوى، كما يجهد المتلقون لفهمه وإدراكه.
يبقى الصراعُ مستمرّاً بين المسموح والممنوع، بين ما يحقّ للفنان وما لا يحق لغيره، بين الحرية والقيد، وهو سؤال لا إجابة شافية وافية له على ما يبدو
وبعد هذا كلّه، هل يمكن فصل الفنّ عن السياسة أو الاجتماع؟ ولكن كيف سيكون ذلك؟ ألا يعيدنا الأمر، بهذه الصورة، إلى نظرية الفنّ من أجل الفن التي لم تصمد أمام طوفان ترابط الواقع بالفن! المثال الذي يمكن ضربه مباشرة ما أثاره فنان الكاريكاتير، علي فرزات، في ربطه بين انتقاد الأداء السياسي للمعارضة السورية وبعض أشخاصها، ربطاً أثار انقساماً واضحاً بين مؤيّد ومعارض. وقد كان فرزات قد فعل الشيء ذاته عند انتقاده النظام الحاكم، فاستحضر عنصراً نسائياً بإيحاءاتٍ جنسيةٍ ليوصل فكرته. فهل يحقّ للفنان التطرّق إلى جوانب طالما اعتبرها الناس، خصوصا في مجتمعاتنا الشرقية، زوايا يجب إخفاؤها باعتبارها مرتبطة ضمن الإطار الثقافي العام بمضامين يعبّر عنها بالعيب والحرام؟ ثم هل كان التعامل مع الأمر سيختلف فيما لو كان الجسد المستخدم لرجل؟
لا إجابة واضحة في هذا المضمار، فللموضوع عدّة زوايا يمكن مقاربته من خلالها، فبعضهم يرى أنّ الأفراد يتنازلون عن جزء من حقوقهم بالخصوصية، وحتى عن جزء من أعراضهم، عندما يشتغلون في الشأن العام. لذلك عليهم أن يتحمّلوا هذا الجانب من أخطار الانخراط العمومي. بينما يرى آخرون أنّ الفنّ قادرٌ، بكل تأكيد، على تجنّب المساس بالخصوصيات في أثناء مقاربته السياسة والسياسيين أو العاملين عموماً في هذا الشأن. ويبقى الصراعُ مستمرّاً بين المسموح والممنوع، بين ما يحقّ للفنان وما لا يحق لغيره، بين الحرية والقيد، وهو سؤال لا إجابة شافية وافية له على ما يبدو.
كاتب ومحامٍ وحقوقي سوري، المديرالسابق للهيئة السورية للعدالة والمحاسبة، مقيم في ألمانيا.