هنا دار آل الأتاسي
تُحرِز عائلاتٌ في مجتمعاتها وفي ظلال شعوبها، بل وربما بين أمّتها الأوسع أيضاً، مواقع عالية وخاصّة، فتحقّق لنفسها مكانةً كبرى، بما تُسهم به من إنجازاتٍ كبرى في غير شأن. وقد تنعقد لشخصياتٍ فيها الزعامة والسلطة، بفعل ما يجتمع لها من دعائم اجتماعيةٍ في أوساطها وفي مختلف الشرائح. والمعهود أن هذه عائلاتٌ ميسورةُ الحال، وتنتسبُ إلى البرجوزايات الاجتماعية، والوطنيّة غالباً. والمأثور أن توصَف بأنها عائلاتٌ سياسية، ولو تعودُ شهرتُها إلى أدوار أعلامٍ فيها في حقول أخرى. ولا صعوبة في عدّ كثيرٍ من هذه العائلات في المشارق العربية ومغاربها، وليس ثمّة من يُحاجج في أن عائلة الأتاسي، السورية العريقة، واحدةٌ من أشهرِها، وقد لمع منها زعماءُ وسياسيون وأعيانٌ ومشايخ وكتّابٌ وصنّاعٌ ومبدعون ومهنّيون وفنّانون وناشطون، وكذا نساء برعن واشتهرن وأنجزن.
أما تعيين هذه السطور لعائلة الأتاسي، المدينيّة الحِمصية، فمناسبته أن أصدقاء سوريين أتاحوا لصاحب هذه الكلمات أن يكون في "لمّةٍ" سورية عريضة، في سهريةٍ في دار آل الأتاسي في باي شهير في إسطنبول، الدار الأشبه بمنتدى اجتماعي ثقافي عام، وقام على إنشائها أحد شباب العائلة، في 2020، ووفّر لها لوازمها. ولئن تعمل الدار، المستقلّة، على تقوية الصلات بين أبناء العائلة العتيدة، وتوثيق تاريخها، فإن زائراً مثلي يلحَظ نأيَها عن أن ينحصر عملُها في إطار الأتاسيين وأوساطِهم الخاصة، فتنفتح على العموم السوري العريض من خارج منظومات الاستبداد والفساد الحاكمة في دمشق ومشايعيها، فقد ضمّ الجمعُ الذي تجاوز الخمسين سوريّاً من المغتربين والنازحين في إسطنبول، وضيوفاً على احتفالية تلفزيون سوريا بمناسبة انطلاقةٍ متجدّدةٍ له، مثقفين وإعلاميين وفنّانين وكتّاباً وناشطين من كل طبقات سورية، ما دلّ على أن دار آل الأتاسي، عن حقّ، بيتٌ جامعٌ للنخب السورية في المغترب التركي وزوّاره. وبينما كنتُ أتملّى في صور أكثر من ستين شخصية من أعلام آل الأتاسي، على مرّ نحو ستة قرون، في بهو الدار، ظلّ سؤالٌ يلحّ عليّ عن رثاثة الحالة السورية، عندما لا تكون هذه الدار الناهضة في دمشق، فيختار أهلوها إسطنبول مقرّاً لها، وقد عرفتُ أن في الولايات المتحدة جمعيةً خيريةً أتاسية.
استمعنا، وقد تخلّل استمتاعَنا وسماعَنا عشاءٌ شهيّ، إلى قصائد قرأها أصحابُها من حضور السهرية الممتدّة، إلى عديدين من الحضور المتنوّع، والمتعدّد الخبرات والتجارب، تحدّثوا عن طفولتهم وشبابهم في سورية المقيمة فيهم، والتي أبعدها عنهم نظام المُخبرين والقتلة المعلوم. غشيني شعورٌ، وكنتُ الوحيد بين هذا الجمع الذي ضجّ بالأنس والألفة لستُ سورياً، بأني محظوظ، لأن لي بلداً آمناً، فأرومتي الفلسطينية لا تلغي أردنيّتي الحقّة التي تحميني. أفضى الأصدقاء والزملاء والمعارف، ومنهم أساتذة في اختصاصاتهم، بما كابدوا من ظروف العيش، وكيف كافحوا من أجل إثبات الذات، وبعضُهم من أسر فقيرة، وكيف تعلّموا ودخلوا الجامعات وأبدعوا وتميّزوا.
كأنهم آل الأتاسي، وقد جمعوا السوريين في ظلالهم، عقوداً، يجمعون هنا في هذا البهو سورية التي تُكابد من أجل أن تنهض، من أجل أن تدفَع الموت والخراب اللذيْن استبدّا بها. كأن آل الأتاسي الذين أنعم الله عليهم باليُسر والدّعة في أزمنةٍ مضت، كانوا فيها من أهل القرار والسلطة والنفوذ والفاعلية، في أزمنة النزاهة والحكم بالقانون والدستور، يواصلون عطاءهم في زمن المحنة الكبرى الراهنة. ولئن كتب العارفون عن أدوارٍ تاريخيّةٍ تنهض بها البورجوازية الوطنية في نهوض بلادها اجتماعياً وثقافياً، فإن الدار التي سعدتُ بالمرور عليها، في زيارة إسطنبول أخيراً، وسُررتُ فيها بفرح موشّى بحزنٍ ما، أخبرتني بأن في وُسع عائلاتٍ عربيةٍ أن تؤدّي في بلادِها وفي المغتربات الكثير مما يبقى، سيما في المسألتين الثقافية والاجتماعية. وقد استضافت الدار، في اليومين السابقين على سهريّتنا، عزاء بالرجل النظيف، الرفيع الاسم والمكانة، اللواء محمد فارس، رحمه الله. وهي التي لم توقف استضافاتها أنشطة مختلفة المشاغل.
ثلاثةُ أتاسيين كانوا رؤساء سورية التي غابت، ونادر الأتاسي في زمن ذهبي بعيد أنتج لدريد لحّام ونهاد قلعي أول أفلامهما في 1965، وأنتج ثلاثة أفلام لفيروز والرحابنة، وهو مهندسُ إنشاءات عمل في النفط والمقاولات... أربعة أسماء في عنقودٍ بهيٍّ طويلٍ يضمّ أسماء أتاسيين يصعُب عدّها، الرحمة لهم، وطول البقاء لأبنائهم وأحفادهم، وحمى الله سورية والسوريين. وشكراً أصدقائي على سهريّةٍ لن تُنسى في إسطنبول.