وأُغلق باب الشمس

19 سبتمبر 2024

(إلياس خوري ... 1948 - 2024)

+ الخط -

استمع إلى المقال:

عندما بدأتُ متابعة مقالاته في مجلة الكرمل، لم أكن أعلم أنني سأبقى أتابع ما يكتبه في عمري كلّه لاحقاً. كنت طالبة في الثانوية، وكانت معلّمة اللغة العربية تزوّدني بكتب ومجلّات تتعلّق بالشأن الفلسطيني تحديداً، لأنّها تعرف شغفي بها، وكان منها أعداد مجلّة الكرمل. أذكر أنّني كنت أنتهي من قراءة العدد بكامله، في يومين، لأعيده إلى معلّمتي في الوقت المُحدَّد، وكان مقال رئيس تحرير المجلّة محمود درويش، ومقال مدير تحريرها إلياس خوري، أكثر ما يعجبني في المجلّة عادةً، حتّى أنّني كنت في بعض المرّات أنسخ المقالَين، أو فقرات منهما، لأعود إليهما لاحقاً.

ذلك زمن مضى، وترك فيّ الكثير ممّا يستحيل نسيانه، ترك فلسطين كلمةً وقلباً نابضاً ومقاومةً مستمرّة في كلّ شيء، وترك أسماءَ كثيرةً في ذاكرةٍ مرتبطةٍ بالكلمة الأولى، ومنها اسم إلياس خوري، الذي رحل الأحد الماضي مُخلّفاً أثراً عميقاً لا يُمحى في وجداني. لقد أغلق باب الشمس، الباب الذي عبر منه إلى عوالم سحرية صاخبة كلّ الطرق فيها تُؤدّي إلى فلسطين.

وفيما يشبه التماهي الحيّ، ما بين الكتابة والواقع، وما بين السرد والتاريخ، رحل كاتب "النكبة المستمرّة"، في وقت تستمرّ فيه النكبة فعلاً في أرض فلسطين. فالنكبة، التي ولد إلياس خوري في تخومها الزمنية في العام 1948، ما زالت مستمرّة، لم تنتهِ (ولن تنتهي) مفاعيلها في الأرض وفي الإنسان، وفي الكتابة أيضاً. لقد كتبها خوري دائماً لتصير عنوانه الأوضح، حتّى لا يمكن تصوّره خارج دائرتها التي تتسع حوله سنة بعد سنة، وكلمة بعد كلمة.

وفي تماهٍ زمنيٍّ آخر، رحل خوري في ذكرى مجزرة صبرا وشاتيلا، وهو الذي عاصرها، وكتب عنها في روايته الشهيرة "باب الشمس" (دار الآداب، بيروت، 1998)، التي أرادها توثيقاً إبداعياً حرّاً، ليس على ما حدث لفلسطين في فلسطين وحسب، وإنّما على ما حدث لها خارجها أيضاً. وعلى غزارة الروايات العربية التي تناولت الحدث الفلسطيني بصوره ومراحله المختلفة، تميّزت "باب الشمس" من بينها باعتبارها روايةً ذات بناء سيمفوني مُتعدّد الحركات والمستويات، برع فيه الكاتب باستحضار التاريخ واقعاً حياً من دون أن يحوّل روايته سجلاً تاريخياً، ومن دون أن يتنازل عن سحر الكتابة الروائية، وخيالات الكاتب في رسم شخصياته بحرّية تامة. وهو ما جعل من هذه الرواية مفصلاً حقيقياً من مفاصل ما يسمى "السحرية الواقعية" في الرواية العربية.

وعندما تحوّلت "باب الشمس" فيلماً سينمائياً بتوقيع المخرج يسري نصر الله، بالاسم نفسه في العام 2002، لم يجد المشاهد صعوبةً في اقتفاء أثر الرواية كاملاً من خلال مشاهد الفيلم، على العكس ممّا يحدث في كثير من الروايات الأخرى، التي تتحول أفلاماً سينمائيةً. لقد ظلّت فلسطين في الحالتَين هي العنوان الأبرز من دون أن يتوارى الفنّ خلف الالتزام بالقضية وفق المُتوقَّع.

ولم يكن إلياس خوري كاتباً روائياً مسرحياً أو ناقداً أو محرراً صحافياً وحسب، بل كان قبل هذا وذاك صوتاً عالياً من أصوات التاريخ والجغرافيا، يروي حكايات شعب عانى طويلاً، ويعبّر عن آلامه وآماله من خلال مواقفَ عاشها وعايشها في بيروت، خصوصاً في السبعينّات والثمانينّات، عندما كانت بيروت عاصمةَ القرار الفلسطيني، وأرض نضاله أيضاً.

عمل إلياس خوري في الحقل الأكاديمي، بجانب عمله في الصحافة الثقافية في صحف ومجلّات عدّة، فساهم بتشكيل حركة صحافية ثقافية فاعلة في سبعينيّات القرن الماضي وثمانينيّاته وتسعينيّاته. ورغم أنّه أصدر بعض الكتب قبل "باب الشمس"، مثل "رحلة غاندي الصغير"، و"مجمّع الأسوار"، و"أبواب الرحيل"، و"عكا والرحيل"، وغيرها، إلّا أنّه في هذه الرواية كان قد بلغ منتهاه الإبداعي، إذ أدركنا من خلالها أنّ للروايات أبواباً خلفية، تفتح على آفاق التاريخ، وتغمرنا في بحور الجغرافيا، في حركة مستمرّة لا تكتفي بتصوير الحدث التاريخي، بل تنتقده أيضاً، وتجعله في مواجهة الواقع الراهن.

كانت تلك الرواية بمثابة جسر بين الأجيال، تذكّرنا بأنّ الأمل لا يموت، وبأنّ الذاكرة الحيّة تظلّ حاضرةً في كلّ كلمة. وكان خوري يُجسّد روحاً حقيقيةً للإنسان الفلسطيني، رغم لبنانيته، ويعبّر عن معاناته وأحلامه بلغةٍ جمعت ما بين الرهافة والقسوة بدقّة شديدة تعبّر عن شخصية إلياس خوري في كلّ ما كتب قبلها وبعدها. وهو إذ يرحل الآن يبقى الباب مُغلقاً بانتظار من يفتحه لتبزغ شمس فلسطين حرّةً حتماً.

CC19B886-294F-4B85-8006-BA02338302F0
سعدية مفرح

شاعرة وكاتبة وصحفية كويتية، من مجموعاتها الشعرية "ليل مشغول بالفتنة" و"مجرد امرأة مستلقية"، ولها مؤلفات نقدية وكتب للأطفال. فازت بعدة جوائز، وشاركت في مهرجانات ومؤتمرات عدة.