وحدة الساحات وما يُراد بها
أثار تدخّل الحوثيين، أخيرا، في معركة غزّة بضرب إسرائيل بصواريخ، أو التعرّض لسفنٍ في البحر الأحمر، جدلا عاصفا بين اليمنيين، وانقسم خصوم الجماعة الكثيرون ما بين مجموعةٍ تراه مجرّد محاولة لغسل خطاياهم وتجميل صورتهم وآخرين اعتبروه سببا كافيا للكفّ عن نقد الحوثيين أو تعليقٍ مؤقّتٍ للخصومة.
تتكرّر هذه النقاشات في معظم الدول العربية الواقعة ضمن ما يعرف بمحور "المقاومة"، إذ يتجدّد النزاع الداخلي متداخلاً مع القضية الفلسطينية، في وقت وجد فيه هذا المحور في التصعيد في غزّة فرصة لإثبات جدّيته في مواجهة إسرائيل وحليفتها أميركا، وتجديد شرعية حضوره. ويذكّرنا هذا النقاش بانقساماتنا العميقة، والتي لا يمكن معالجتها بسهولة، ولا ينعكس شبه الإجماع الشعبي على قضية فلسطين، بالضرورة، على مواقفنا الأعمق بشأن مصير دولنا، وهي ضمن منطقة تعتبر الامتداد الإقليمي الحضاري والجغرافي الذي لا غنى عنه للفلسطينيين.
وجد محور الممانعة في التصعيد في غزّة فرصة لإثبات جدّيته في مواجهة إسرائيل وحليفتها أميركا، وتجديد شرعية حضوره
الإشكالية في هذا النقاش الذي لن ينتهي قريباً أنه يحتاج لضبط عدة مسائل فيه. أولها: لا يمكن الاستدلال والمقارنة في عدد القتلى والضحايا لأحد محاور "المقاومة" مثل الحوثيين أو النظام السوري بما يفعله الإسرائيليون، لأن هذا معيار تقييم حقوقي خالص، يفتقد للسياق السياسي والتاريخي. بمنطق كهذا منتزع منه السياق السياسي والتاريخي يصبح كل فعل عنيف مدانا بشكل متساوٍ، لا فارق بين قوات احتلال وقوات مقاومة، وهكذا تصبح كلها عنيفة وتستحقّ إدانة متساوية، ففي فلسطين سياق احتلال وإبادة عرقية. في المقابل، مهما حاول بعضُهم تشبيه بعض الأطراف التسلّطية والعنيفة بالاحتلال تعبيرا عن الاحتلال الداخلي، يظلّ الأمر، في نهاية الأمر، نزاعا وصراعا داخليا محكوما بسياقٍ مختلفٍ تماما. صحيحٌ أن لحجم الضحايا دلالاته، فهناك فرق بين ضحايا مدنيين، وجودهم حتمي في أي صراع مسلح، وضحايا مدنيين مستهدفين عمداً. ويكشف الإمعان في التنكيل عن منطق القوّة الغاشمة للطرف الذي يقوم بها ويعبر عن مبادئ وتصوّرات فكرية خطيرة لا يمكن الاستهانة بها، لكن المنطق الحقوقي بمفرده يظلّ غير كافٍ لاتخاذ موقفٍ من أي طرف.
ثانياً، خطورة المقارنة بين إسرائيل والنظام السوري أو الحوثيين بشكل عام. صحيحٌ أن من الجيّد إن إسرائيل أصبحت في وعينا الجمعي معيار التوحّش الأقصى، لكن هذه المقارنة عادة تتم بمنطق أن نظام الأسد أو الحوثي أشدّ دموية في استدلالات رقمية عن ضحايا القتل والتهجير، وهو هنا يطرح بما يشبه تبرئة ضمنية غير مقصودة للكيان الصهيوني، وكأنه محاولةٌ للتقليل من خطورة إسرائيل أو وحشيّتها، قياساً بخصومنا الداخليين أو محاولة لحرف الأنظار عن فلسطين في هذا الوقت الحرج، أو شكل من المزايدة العاطفية بين مجموعة من الشعوب المنكوبة، لمن يعاني منها أكثر.
أخيراً، يبدو هذا النقاش في هذا التوقيت الحرج غير مقبول، فهو حرف أنظار لقضية ليست مركزية بحكم العاطفة، وإنما بمنطق السياسة، فها هي تخلط الأوراق الوهمية لمشاريع التنمية الجبّارة لدول عربية افترضت أن أمنها القومي يبدأ من حدودها، وتحاول تجاهل وجود القضية الفلسطينية وحصرها بالفلسطينيين، متجاهلةً مشروع الهيمنة الإسرائيلي بما يتطلبه من إضعاف طبيعي لبقية دول المنطقة، خصوصا الدول العربية.
تتطلّب مواجهة إسرائيل الحقيقية اتساقا حقيقيا مع مفاهيم العدالة والحرّية، تفتقده كلياً تيارات ما تعرف بـ"المقاومة"
بالتأكيد، لا يعني هذا الذهاب بعيداً إلى درجة تبرئة ساحة هذا الفصيل أو ذاك، لأنه قرّر معاداة إسرائيل في معركة، التصعيد فيها مدروس بعناية، فهو لا يرقى إلى شعار وحدة الساحات الذي رفعته إيران، والتي قالتها بوضوح "إنها لن تُحارب بالنيابة عن أحد"، في إشارة واضحة إلى حدود تدخلها في القضية الفلسطينية بشكلٍ يعلي المصلحة القومية الإيرانية فوق كل شي، بل أيضاً استخدام هؤلاء الوكلاء المختلفين من اليمن والعراق وسورية ولبنان كخطوط دفاعية لإيران لتقوّي وضعها الإقليمي والدولي.
بعد أكثر من سبعة عقود، استخدَمت فيها أسواً الأنظمة والديكتاتوريات القضية الفلسطينية ورقة تواري بها سوءاتها أو تزايد بها على أخرى، أو توظّفها لصالح مشاريعها السلطوية، يفترض أن هذا جعلنا أكثر وعياً في التعامل مع تحرّكاتٍ كهذه، لا ينبغي إدانتها. ولكن لا ينبغي مباركتها وتحويل القضية الفلسطينية إلى قربانٍ يغفر الخطايا. كما يُفترض أن هذه التجارب السابقة أوجدت لدينا الوعي الكافي بعدم إمكانية فصل القضية الفلسطينية عن قضية تحرّر شعوب المنطقة من الاستبداد ورفقائه من فساد وتدخّل خارجي.
تتطلب مواجهة إسرائيل الحقيقية اتّساقا حقيقيا مع مفاهيم العدالة والحرّية، تفتقده كلياً تيارات ما تعرف بـ"المقاومة". وبالتالي، يفتقد هذا التيار الحقّ في تبنّي هذه القضية أخلاقياً. وتجربتنا الطويلة ينبغي أن تمنعنا من الاندفاع نحو مباركة تحرّكاتٍ كهذه منزوعةٍ من سياقها الأخلاقي الأشمل. بالطبع، لا يشكّك هذا في مصداقية بعض هذه القوى في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية بسبب العاطفتين، الدينية والقومية، لكنها دوافع لم تكن كافية لتحرير فلسطين، لأنها تنتزعها من المعارك السياسية والأخلاقية الكبرى التي تواجهنا.
لا يرقى التصعيد الحوثي، أخيراً، إلى تهديد حقيقي لمصالح إسرائيل، أو تخفيف الضغط على المقاومة الفلسطينية
لا يمكن التشكيك مطلقاً في حقيقة نيّات الحوثيين في حماستهم للانخراط في ما تسمّى "وحدة الساحات"، فالقضية الفلسطينية تشكل جزءا من وعيهم وضميرهم كبقيّة اليمنيين، وهذا يفسّر السذاجة التي يندفع بها حوثيون كثيرون في معركةٍ لا يدركون أبعادها الإقليمية والدولية المعقّدة، والأكبر منهم بكثير بسبب طبيعة نشأتهم في منطقةٍ معزولةٍ، وجهلهم الواضح بالسياسة الدولية.
قد تكون مرحلة حرب غزّة مرحلةً تتراجع فيها خلافاتنا نسبياً، لكنها بالتأكيد ستحتدم لاحقا بقوةٍ أكثر مما سبق، لأن هذا كعبُ أخيل، لكي نؤدّي الدور الذي تريده إسرائيل، وهو تصفية بعضنا بعضا، والتمترس مجدّداً بين حلفي "المقاومة" وما يسمّى "المهادنة"، وكلاهما بلا حيثيات قيمية وأخلاقية أو مشاريع سياسية، والمسألة صارت تدور في مربّعات هوياتية وطائفية شديدة الضيق تخدم إسرائيل أكثر من غيرها.
بالتأكيد، لا يرقى التصعيد الحوثي، أخيرا، إلى تهديدٍ حقيقي لمصالح إسرائيل، أو تخفيف الضغط على المقاومة الفلسطينية، وتداعياته خطيرة على اليمن، بلدا ومجتَمعا بشكلٍ يصعُب تبريرُه، لكن الخلاف (والاشتباك) مع الحوثيين يظلّ كلامياً في هذه المرحلة، الأمر الذي يتطلّب ألا نفقد بوصلتنا الأخلاقية والسياسية، ونسيان السياق الظرفي لهذه المرحلة القاسية، وما سيُفرز عنها من نتائج صعبة على الجميع.