وحدة مصير المشرق العربي
لأسباب مفهومة، كان السوريون يسخرون، خلال التسعينيات من القرن الماضي، من المقولة التي أطلقها نظامهم عن "وحدة المسار والمصير" بين سورية ولبنان. مطرح السخرية أن النظام كان يبتغي من ورائها منع لبنان من أن يسلك طريق الأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية في الانفراد بتوقيع معاهدة سلام مع إسرائيل، قبل أن يتوصل هو إلى تسوية معها. لكن تهافت الأسباب لا يمنع صحّة المقولة التي باتت تصدق اليوم في عموم المشرق العربي أكثر من أي وقت مضى. ولأسباب جيوسياسية وتاريخية يضيق المجال بشرحها، يرتبط مصير دول المشرق العربي ببعضها إلى حدٍّ يصعب معه تصور حصول تطور في إحداها لا ينعكس بصورة مباشرة على الآخر، كما يصعب فهم تاريخ جزء منها من دون ربطه ببقية الأجزاء. وقد يكون من نافل القول إن تاريخ المشرق العربي خلال النصف الثاني من القرن العشرين هو فعليًا تاريخ فلسطين والصراع مع إسرائيل حولها. كذلك الأمر، لا يستطيع المرء أن يفهم تاريخ سورية الحديث، خصوصا بمعزل عن تاريخ العراق وأوضاعه السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
وبخلاف أن سورية كانت تاريخيًا نافذة العراق على العالم، وهو أمرٌ سيصير أوضح بعد ترسيم الحدود واكتشاف النفط، يمكن أن يُلاحظ أيضا كيف أن فيصل الأول انتقل ليصبح ملكًا على العراق بعد أن فشل في الحفاظ على مُلكه في سورية أمام الفرنسيين. الانقلابات العسكرية السورية الأولى (خصوصا انقلابي حسني الزعيم وسامي الحناوي) ارتبطت بقوة بمشاريع أنابيب النفط التي كان مقدّرا لها أن تنقل نفط العراق إلى المتوسط. أما الانقلابات المتأخرة فقد ارتبطت بصراع العراق مع مصر والسعودية حول من يظفر بسورية. وكان لافتًا أن سقوط الهاشميين في العراق على أيدي ضباط الجيش (يوليو/ تموز 1958) جاء بعد خمسة أشهر فقط من قيام الوحدة السورية المصرية (فبراير/ شباط 1958). أما انقلاب حزب البعث في سورية (8 مارس/ آذار 1963) فقد جاء بعد شهر فقط من انقلابه في العراق (8 فبراير/ شباط 1963). ومع عودة "البعث" إلى الحكم في بغداد عام 1968 بعد سقوطه على أيدي الناصريين في أكتوبر/ تشرين الأول 1963 (فشل انقلاب الناصريين على "البعث" في سورية في يوليو/ تموز 1963)، صار تاريخ المشرق العربي تاريخ الصراع بين جناحي "البعث" في سورية والعراق، خلاف المحاولة الوحدوية الفاشلة بينهما عام 1979، ردّا على توقيع مصر معاهدة السلام مع إسرائيل.
وعلى الرغم من أن حكم "البعث" في سورية والعراق كرّس بشكل مطلق حدود الدولة الوطنية (خلاف ادّعاءاته الوحدوية)، إلا أن ذلك لم يُضعف قط ارتباط مصير العراق بالشام. ففي عام 1991، ارتبطت هزيمة العراق أمام التحالف الدولي الذي قادته الولايات المتحدة لتحرير الكويت بانطلاق مسيرة التسوية بين دول بلاد الشام وإسرائيل، بعد أن فقد العرب، بتدمير آلة العراق الحربية، خيار المواجهة العسكرية نهائيا. ولم يكن ممكنا في عام 2003 تخيّل انهيار نظام الرئيس صدام حسين بفعل الغزو الأميركي من دون أن تكون لذلك تداعيات جوهرية على سورية وعموم المشرق العربي. إذ خرجت إيران بانهيار العراق من القمقم الذي حبسها فيه العرب بعد ثورة 1979، وسرى نفوذها في جسد المشرق العربي حتى كادت تفتّته. خلال العقدين الأخيرين، تحول مشروع إيران الإمبراطوري القائم على ولاية الفقيه إلى أكبر تحدٍّ يواجه الدولة الوطنية المشرقية الحديثة، بسعيه إلى ربط الشيعة العرب والأقليات الأخرى القريبة منها بمرجعية دينية تتجاوز حدود الدول الوطنية التي بات تفكيكيها وإنشاء سلطات موازية لها جوهر المشروع الإيراني. جاء رد الفعل على ذلك عبر مشروع آخر عابر للحدود، مثّله تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) الذي نشأ في العراق، ثم انتقل إلى سورية مع اندلاع ثورتها، ليعود وينطلق منها للسيطرة على الموصل والأنبار، وليعلن إنشاء دولته في سورية والعراق.
في مواجهة مشروعي إيران و"داعش"، غدا مصير المشرق العربي الممتد من البصرة إلى بيروت خلال العقد الماضي مترابطا أكثر من أي وقت مضى. الغريب أن خصوم المشروعين لا يرون الأمور بهذه الصورة. ولذلك نراهم يفتقدون أي شكل من التواصل والتعاون، في حين تتعامل إيران و"داعش" مع المشرق العربي باعتباره مسرحا واحدا، وتتحرّكان عبره من دون اعتبار للسيادة والحدود السياسية الفاصلة بين دوله. خلاصة القول، لن تنتصر انتفاضتا تشرين العراقية واللبنانية، ولن تستعيدا الدولة "المخطوفة" إلا إذا انتصرت إرادة التغيير في سورية. ولن تنتصر إرادة التغيير في سورية، إلا إذا غلّب العراقيون واللبنانيون والسوريون انتماءاتهم الوطنية، وأفشلوا مجتمعين المشاريع العابرة حدود أوطانهم.