وساد قانون "البتاع"
أحدهم، له تاريخ في النصب باسم الدين، ومثله كثيرون، تدلّ إليهم شواهد وشهادات على مواقع التواصل الاجتماعي، صوّر إعلانا لأحد تطبيقات "العمرة"، وشاركه على حسابه في "فيسبوك" بعبارة تسويقية تقول: "تخيل تعمل عمرة لأحبابك، متوفي - مريض – عاج، بأقل من 4000 ج" مع إيموشن ضحك وقلوب، ابتهاجا بـ "العُمرة الرخيصة". يحكي "الشيخ" قصّته مع التطبيق، وكيف اكتشفه، مصادفة طبعا، وكيف اتصل، عفويا، بأصحابه، ليشرحوا له كيفية استخدامه، ومن ثم يشرح لنا، كيف نفتح التطبيق، ونضغط زرّ عمرة عادية أو رمضان أو مستعجلة. ولم يفت الشيخ "تخليل" ذلك كله بكلمات حرّاقة مثل ربنا يرحم، وربنا يرضى، وربنا يتقبل، وما شاء الله، والحمد لله، وجزى الله أصحاب التطبيق خيرا، ورفع لافتات تسويقية مثل "جايب لكم أفضل عرض في حياتكم"، و"جايب لكم خصم 35 في المئة لأول 500 مشترك"،… إلخ.
نال الفيديو ما يستحق من تعليقات سلبية. لا يحتاج المسلم العادي أن يكون مختصّا في أحد العلوم الإسلامية، كي يكتشف، ببساطة، حجم الاتّجار بالدين في خطابات أغلب مشايخ "السوشيال ميديا"، كما لا يحتاج أن يكون فقيها أصوليا ليدرك أن "العمرة بالوكالة" عن قريبٍ أو غيره، ولو كانت نظير تعويض مادي، عن الوقت والجهد، شيء، وعمرة تطبيقات الهاتف المحمول شيء آخر. يدافع شيخ التطبيق عن سلعته بأنه صحّت عن النبي أحاديث في جواز العمرة بالوكالة، ولأنه سمع، غالبا، أن لهذا، حال إقراره، شروطا، أهمها التوثق من شخص من ينوب عن الميت أو العاجز، وأنه لا ينوب عن أكثر من واحد في وقت واحد، وأفضلية أن يكون من الأقارب، يسارع شيخ التطبيق بوصف تطبيقه بأنه "صديقك في مكّة".
ليس من المستغرب النصب باستخدام الدين، من البديهي والمتكرّر أن يلجأ النصّابون، في أي مجتمع، إلى أكثر الأشياء قيمة في حياة الناس ويوظّفونها أو يختبئون خلفها، لا يخصم ذلك من الدين، ولا يجعله، في ذاته، أفيونا أو وسيلة نصب، لكنه، يدين النصّاب مرّة، ويدين أتباعه، بعد افتضاح أمره، مرّات. النصب بالدين موجود، ومتكرّر، وقديم، من ظاهرة القصّاصين في التاريخ الإسلامي، الذين ملأوا المساجد بالقصص والحكايات والأحاديث المخترعة، لدغدغة عواطف الناس وابتزاز أموالهم، إلى أشباه القصّاصين (والبشر) في واقعنا، وهم كثر. لكن المرعب في ظاهرة شيخ التطبيق الإلكتروني هو كم التعليقات المؤيدة، والمستعدّة لشراء "الأونطة" بوصفها شعيرة دينية تستحقّ التعظيم، بل والتبرير لما فعله الشيخ بوصفه يستند إلى آراء فقهية قديمة لدى المالكية والشافعية!
ليس الخلل في فهم الدين، بل في فهم الواقع. ليس الخلل في تراث الفقهاء بل في قرّائه، وليس النزاع الديني، هنا، بين إسلاميين وعلمانيين، بل بين إسلاميين ومسلمين. لم يكتب الفقيه القديم لزماننا، لم يعايش الفقهاء الأوائل قدرات الرأسمالية في تحويل كل شيء إلى سلعة ونزع القداسة عنه، لم يكتب أحدهم "آراء" فقهية"، (وليس أحكاما شرعية كما وصفها بعض المدافعين عن شيخ التطبيق)، في واقعنا المتشابك، بل في واقع أكثر بساطة، وأكثر احتفاء بالقيمة، وأقلّ جشعا وشراهة واجتراءً على عقول الناس. ولذلك لا يمكن مساءلة فقيه القرون الأولى عن انتزاع آرائه من سياقها وزمانها واستخدامها في عملية نصبٍ واحتيالٍ واضحة. المساءلة الحقيقية ليست للفقيه القديم، إنما للنصّاب وأتباعه، وهذا واجب المؤسّسة الدينية، وفق الواقع والمتاح، وهو، فيما أزعم، دورها الأكثر إلحاحا في واقعنا، الذي يستوجب جهدا منظّما لا عشوائيا، يرصد هذه الخطابات بوصفها "محتوىً مضللا" ويصوّبها. أما المساءلة الأهم فهي، بوضوح، للسلطة السياسية التي وفّرت البيئة المناسبة (والمحفّزة) لانتشار فيروسات الجهل والخرافة والتضليل، بيئة انتهاك التعليم، وازدراء الثقافة، ووحشنة الإعلام، وشبحنة الفنون، وتحويل المواطن إلى "شيء"، لا قداسة له، ومن ثم لأفكاره وآرائه ومعتقداته. وهذه المساءلة هي مهمة نخب المجتمع كافة، وأولهم المثقّف الذي يزعم دورا تنويريا، ثم ينصرف إلى مساءلة المجتمع من دون حكّامه، خوفا وطمعا.