وصفات صندوق النقد وإعادة إنتاج الهيمنة في لبنان

27 يوليو 2022
+ الخط -

يخطئ بعض اللبنانيين واللبنانيات الاعتقاد أن الطبقة الحاكمة ستنهي بعض مؤسّسات الدولة، وفي مقدمتها الجامعة اللبنانية. على اعتبار أن الحالة المأساوية التي تمر فيها هذه المؤسسات عموماً، والجامعة على وجه الخصوص، ستكون الحد الفاصل الذي سيؤدّي إلى تدهورها النهائي، وبالتالي إلى إنهائها وإغلاقها.

هذا النوع من الإنهاء، ولمن يعرف السلطة اللبنانية جيداً، أحد أصعب القرارات التي لا تتجرّأ الطبقة الحاكمة في لبنان على اتخاذها، فهذه المؤسّسات عمود هيمنتها الفقري، وهي متنفّسها للهيمنة على الطوائف، وبالتالي على البلاد. تلك الطبقة التي تعدّ من أسوأ الأوليغارشيات، ربما تاريخياً، ليس في لبنان فحسب، بل في المنطقة والمحيط أيضاً، لا تتمتع إلا بذهنية الاستباحة، استباحة كل شيء وأي شيء. وهو ما يؤكّده، ليس تاريخها فقط، بل حاضرها أيضاً، وما آليات وذهنيات خوض المعركة النيابية منذ شهرين، وبالطريقة السابقة، وما آليات تشكيل الحكومات بعد انتفاضة 17 تشرين (أكتوبر 2019) بسلوكيات التحاصص نفسها، وبالقدرة التعطيلية نفسها النابعة من الشخصانية وطموحاتها، وبوزير في الزائد أو الناقص في بلاد منهارة، إلا أنموذج يؤكد أن ما شبّت هذه الطبقة عليه لا يمكنها أن تحيد عنه، فهذا السلوك يهدف إلى تكريس قاعدة الزبائنية السياسية، واستمرار الهيمنة على الطوائف وعلى علاقاتهم بالدولة وبمؤسّساتها، من خلال استباحة التوظيفات، من دون أي فصلٍ بين الخاص والعام، ومن دون أي خجلٍ ولا وجل.

السلطة تستمر في قضم ميزانية الجامعة التي انهارت جرّاء انهيار الليرة واتساع الهوة بينها وبين الدولار

كل ما يحكم منطق ترك المؤسسات لتلاقي مصيرها من التداعي والانهيار يكمن في أن هذه السلطة، بكل أطيافها (كلّن يعني كلن)، تعمل على تطبيق وصفات صندوق النقد الدولي لناحية بعض الشروط التي وضعها. فبحسب وجهة نظرهم، هذه خطوة ضرورية لبداية تلمّس لبنان إمكانية تخفيف وطأة الانهيار، طبعاً من دون الكلام عن أي إمكانيةٍ لإنهاء الانهيار أو الخروج منه. وفي مقدمة هذه الشروط "تشحيل" القطاع العام، أو بكلام أكثر لطفاً، ترشيقه من الأعداد المتضخّمة التي تندرج ضمن مؤسساته جرّاء سياسة الاستباحة والحشو العشوائي لموظفين كثيرين غير منتجين، لا يتمتع جزء منهم بالكفاءة من ناحية، والذين لا تحتاج المؤسسات إلى جزء منهم من ناحية ثانية.

عليه، بدأت السلطة في لبنان، ومن دون أي إعلان رسمي، ومن دون أي جرأة وشفافية في البوح، تنفيذ أبرز بنود تلك الوصفات، وها هي تستكملها يومياً من دون أن تتحمّل وزر أي تبعات قانونية، أو أخلاقية، أو حتى إنسانية، تجاه موظفي التحاصص الذين تستخدمهم كمليشيات نظامية من داخل المؤسسات، فهي مجرّد قطاعات من المحسوبيات التي دافعت وستدافع عن الزعيم، وستضطرّ إلى أن تغفر له كل الإساءات والارتكابات في المال العام والسياسة العامة، وكل التحريض الطائفي الذي مارسه سابقاً في الحرب الأهلية، ولاحقاً في فترة "السلم"، لأنه أمّن وظيفة في إحدى مؤسسات الدولة لها أو لأحد أفراد عائلتها.

عموماً، تنحو هذه السلطة نحو عدم إتيان أي فعلٍ يخفّف من وطأة تدهور الوظيفة العامة. ولن تكون عناوين الرفع الجزئي للأجور والرواتب إلا كلام حقٍّ يراد به باطل، كلام لذرّ الرماد في العيون، لا يهدف إلا إلى تكريس التفتيت الذي على الصعيد الاجتماعي، والذي سينطبق على المؤسسات العامة لناحية تأليب الموظفين بعضهم على بعض، تارة بالكلام عن رفع رواتب موظفي قطاع بعينه، فيؤدي إلى اعتراض بقية القطاعات على هذا القرار، ولاحقاً تستخدم السلطة هذا الاعتراض لتنقلب على الوعود التي أعطتها لموظفي القطاع الأول، إلخ. بهذه الطريقة، تفرّق السلطة وتستفرد بموظفي كل قطاع بقطاعه، وكله في خدمة المخطّط الذي يهدف إلى الإبقاء على الحالة الراهنة من التداعي التي لا تخدم إلا هدفين: استمرار الهيمنة من ناحية، وتشحيل القطاع العام، كما طلبت وصفات صندوق النقد الدولي.

لن تكون عناوين الرفع الجزئي للأجور والرواتب إلّا كلام حقٍّ يراد به باطل، لذرّ الرماد في العيون

أما من ناحية الجامعة اللبنانية، فلا حاجة لتكرار ما قلناه أعلاه. علماً أن الجامعة تُعَدّ أكبر جامعة في الدولة اللبنانية، وواحدة من أكبر مؤسّسات الدولة، حيث تحوي ما يقارب تسعين ألف شخص، سواء من الطلاب أو من الموظفين أو المدرّبين أو الأساتذة، فالسلطة تستمر في قضم ميزانية الجامعة التي انهارت جرّاء انهيار الليرة واتساع الهوة بينها وبين الدولار الذي هو العملة الفعلية لبلدٍ لا ينتج أياً من حاجياته وأساسياته. كذلك فإنها لن تصحّح الرواتب، ولن تحسّن أياً من شروط بقاء المؤسسة، ولا المحافظة على صندوق تعاضد أفراد الهيئة التعليمية، ولا تثبيت المدرّبين، ولا إدخال الأساتذة المتفرّغين إلى ملاك الجامعة، ولا إدخال أساتذة التعاقد بالساعة إلى ملف التفرغ للأعمال الجامعية، إلخ. لكن هذا كله لا يعني توجّهاً إلى إنهاء الجامعة أو إغلاقها، فالسلطة اللبنانية تشحّل الجامعة من خلال الدفع بجزء كبير من كادر الأساتذة والموظفين والمدرّبين لترك الجامعة والبحث عن فرص عمل أخرى، وتدفع البقية إلى الاستمرار في حالة المراوحة والإضرابات المتنقلة، وتدفع الطلاب إلى التحوّل عن الجامعة اللبنانية باتجاه جامعات الاوليغارشيات الطائفية. وهكذا تستمرّ السلطة، وأحزابها، وتبقى تعيد إنتاج نظامها، من دون أن تضع نفسها في الواجهة، ومن دون أن تحمل وزر مواجهة الجماعات الطائفية التي تهيمن عليها انطلاقاً من الوظيفة العامة بالتحديد.

بالطبع، لا يعني الكلام أعلاه إعطاء الحقوق من دون حملة إصلاحات ضرورية ولازمة، وفي مقدمتها استبعاد بعض الموظفين والمدرّبين والأساتذة، الذين لا يقومون بأي فعل، ولا يتمتعون بأي كفاءة، ولا حاجة لهم في المؤسّسات. لكن المشكلة تبقى في: "مَن سيقوم بهذه المهمة؟ مَن سيختار هذه اللجان والهيئات التي ستختار أياً من الموظفين والأساتذة والمدرّبين، وغيرهم في كل القطاعات، الذين يتمتعون بالكفاءة والقدرة والإنتاجية؟"، فهذه السلطة لن تغلق الجامعة اللبنانية، ولا غيرها من المؤسّسات، وستحقق شروط الصندوق من دون أن تقوم بأي فعل، بل بمجرّد المشاهدة. لكنها، فوق هذه وتلك، لن تغلق هذه المؤسّسات، خصوصاً الجامعة، ليس محبّة بالطلاب، وليس خوفاً على مستقبلهم، وليس حتماً من منطلق الحاجة إلى الانصهار الوطني، بل من منطلق المحاصصة، إذ ستبقى هذه المؤسّسات المهترئة، ولو في شكل هياكل عظمية، منصّات للتوظيف ولاستمرار نظام الهيمنة المافيوي الطائفي بأشكال مختلفة.

باسل. ف. صالح
باسل. ف. صالح
كاتب لبناني، أستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانية