وصية البلغارية مايا تسينوفا: لا تسكتوا أبداً
أجمل ما حدث لي على هامش مؤتمر "الترجمة وإشكالات المثاقفة" الذي حضرت فعالياته مطلع الأسبوع الحالي في الدوحة أنني التقيت بالباحثة والأكاديمية البلغارية، مايا تسينوفا، في ما يمكن تسميته بلقاء الكوفيّات. كانت منفعلة جداً، ولم أستطع التصوير معها إلا بعد أن هدأتْ قليلاً، وسيطرتْ على دموعها، وهي تتحدّث عن الذي يحدُث في قطاع غزّة.
مايا مناضلة قديمة في سبيل القضية الفلسطينية، واكتشفتُ بعد لقائنا أنها تعرفني منذ 30 عاماً تقريباً، وأنها سبق وأن ترجمت قصائد لي إلى اللغة البلغارية، من دون أن أعرف... رأتني في بهو الفندق، وكنت مثلها أتوشّح بالكوفيّة الفلسطينية، فاقتربت في ما يشبه الانجذاب لسحر الرمز، لكنها، ما أن رأتني عن قرب، حتى شهقت دهشة بعد أن عرفتني بسرعة. جمعتنا الكوفية، لنكتشف أن الشعر كان هو الحضن الأول للقاء الجديد!
مايا التي لا تتحدث عن فلسطين إلا وتنهمر دموعها، ولا تتذكّر محمود درويش إلا وتهبّ واقفة، إذ ترى أن الجلوس لا يليق بالحديث عن شاعر فلسطيني من مقامه.. أصبحت مبشّرة أيقونية للقضية الفلسطينية، ليس في بلغاريا وحدها، بل في العالم كله، فهي تشارك في مؤتمرات وندوات ومحاضرات كثيرة في العالم، ودائما برفقة الكوفيّة الفلسطينية التي أصبحت جزءا من أناقتها اليومية. وكان من الطبيعي جداً أن تكون غزّة مفتاح الحديث بيننا.
قالت إن هناك مشكلة، أن المثقفين تمسّكوا بالرواية الأخرى، أن المشكلة بدأت في 7 أكتوبر... أردتُ توثيق ما قالت إنها رسالة إلى من أعرف، فتركتُها تتحدّث عن البداية وصولاً إلى الراهن: مازلت أذكر الجملة التي ردّدتها بيني وبين نفسي، وأنا في السنة الثانية في الجامعة، بعد أن عرض علينا أستاذنا في مادة التاريخ العربي الحديث والمعاصر الموضوعات التي يمكننا الكتابة عنها. قلتُ لحظتها إنني لا أعرف شيئا عن القضية الفلسطينية، فلأخترها موضوعا لي، لعلي أبحثُ فيها وأتعلم. يومها كان صيف 1976.. صيف مجزرة تل الزعتر، ومن هنا، بدأت حكايتي مع فلسطين التي قضيتي الشخصية. منذ صيف تل الزعتر عندما كانت كأس الدم أرخص من كأس الماء. لن أنسى هذا أبدا. لاحقا وبعد سنوات عديدة، وعبر شبكات التواصل، تعرّفت إلى الدكتور يوسف العراقي طبيب تل الزعتر، والذي نشر كتابا عن المذبحة. كانت هذه كلها إشارات، مثلما كان لقائي معك اليوم إشارة أيضا.
متى بدأت القضية؟ ربما قبل قرن، مع أنني لا أستطيع أن أجزم بذكر تاريخ معين. كل ما أستطيع أن أقوله إنها تراكمات مدروسة وممنهجة من الاحتلال، ومفتاحها كلمة "الاحتلال". وبإزالة الاحتلال، تختفي كل الحجج والدوافع والحيثيات لوجود كل ما يسمّونه الآن الإرهاب أو اختراق الهدنة.. ما هي الهدنة إذا كانت حركة حماس قد وجهت عدة إنذارات لوقف الاقتحامات اليومية للمسجد الأقصى، من دون أي وجود آذان تصغي. إذن، يبدو أن 7 أكتوبر كان مدروسا، وجرى التسبّب فيه عمدا. ويقول القانون الفيزيائي إن من المستحيل الاستمرار في الضغط داخل إناء مغلق، ثم تتوقعين إنه لن ينفجر! وهنا كان لا بد من الانفجار. وإذا كان من الجائز القول إننا قد نجد شيئا نافعا في هذه الضارّة الفظيعة، فهو أن عدة حقائق قد عُرفت، والوجوه قد انكشفت.
سقط القناع عن القناع عن القناع. والآن، من واجبنا جميعا ألا نترك هذه القضية تعود إلى التناسي والتجاهل الذي كانت عليه قبل 7 أكتوبر. لم أعُد أتابع وسائل الإعلام الرسمية، لأنها لا تأتي إلا بوجهة نظر أحادية الجانب، وهذا لا يجوز إذا كانت صحافة محترفة، فمن المفروض أن تغطي الجانبين على الأقل. ولهذا، منذ 7 أكتوبر بالذات، أصبح مرجعي الأساسي للأخبار صفحات أصدقائي في غزّة وحساباتهم في وسائل التواصل الاجتماعي. لقد تواصلت في بداية الأحداث أخيرا مع أحدهم، وأخبرته بعجزي عن فعل أي شي، فقال: يكفي أن تكوني هناك، وأن يكون صوتنا مسموعا من خلالك. وهذا ما أفعله.. سنحاول.. ولن نسمح بأن يعود العالم إلى تناسي القضية الفلسطينية بعد اليوم. لا تسكتوا أبداً.
... هل وصلت وصية مايا؟ اللهم إني بلغت، اللهم فاشهد.