وعود قيس سعيّد التي لا تتوقف .. ولا تتحقق
إذا كانت مصاعب تونس الحالية من نواتج عدم حسم الملفات الموروثة من نظام ما قبل الثورة، والتي استمرت ضاغطة ومعيقة أي تحوُّلٍ يقطع مع ماضي حكم الاستبداد، فإن "التدابير الاستثنائية" التي اتخذها الرئيس، قيس سعيِّد، في 25 الشهر الماضي (يوليو/تموز)، لم يرشَح منها خطة للحل، مع مضيّ أسبوعين على خطوته. ويتكرَّس هذا الواقع، على الرغم من أن تونس نعمت بعد انتصار ثورتها، سنة 2011، بأجواء ديمقراطية أزالت بعض ممارسات الاستبداد التي أرهقت أرواح التونسيين عقودا، لكنها لم تحل مشكلات البلاد الاقتصادية والاجتماعية التي أرهقت أجسادهم. وكان لافتاً غياب الخطط الحكومية الكفيلة بحل تلك المشكلات، والروادع الشعبية والأهلية التي تمنع الانقضاض على التجربة الديمقراطية، لذلك لا يلوح سوى الغموض مع خطوة سعيد التي يراها بعضهم محاولةً للتفرّد بالسلطة.
تعوَّدنا على إطلالات الرئيس قيس سعيِّد ساخطاً ومتذمِّراً، يلهج بالوعيد والتهديد وبإجراءاتٍ لمحاسبة المقصِّرين والفاسدين، غير أن هذا السخط لم يأخذ طريقه إلى الواقع على شكل قراراتٍ، تأتي بالفاسدين للمثول أمام المحاكم التي تسرد عليهم التهم التي أوجبت توقيفهم أمام القضاء وفي الزنازين. وفي كل خطابات سعيِّد، كانت هنالك ملامح لأشباحٍ يعيثون في البلاد فساداً، ويتحمّلون مسؤولية فقر عبادها وتخلّف إداراتها، من دون أن يسمّي أيّاً منهم أو يحاسبه. وفي هذا السياق، كانت دعوته الشهيرة التي قال فيها: "لا تتركوهم يتاجرون بفقركم"، والتي أطلقها عشية الاحتجاجات المطلبية، أواسط يناير/كانون الثاني الماضي، ووجّهها للمحتجين الذين زارهم في الأماكن التي شهدت احتجاجهم. يومها قال لهم: "أعرف الأطراف التي تتاجر بالبؤس وبالفقر وتسعى إلى توظيف الشباب" (استغلالهم)، غير أنه وبعد مضي ستة أشهر على تلك الدعوة، وعلى إقراره بمعرفة المسؤولين عن فقر مواطنيه، لم يحاسب أي متاجرٍ بالفقر، ولم يتخذ أي إجراءٍ يغير من واقع هذا الفقر، فهل ستفعل ذلك تدابيره الاستثنائية؟
يدين سعيِّد نفسه، في كل إقراراته وكلامه عن معرفته بالفاسدين والمقصّرين واللصوص، كونه لم يتخذ أي إجراء لتغيير واقع الحال
وفي كلمته التي ألقاها في اليوم التالي للتدابير الاستثنائية التي اتخذها، عاد الرئيس سعيِّد إلى اللغة ذاتها حين قال: "هنالك لصوصٌ يحتمون بالنصوص"، وكما في المرات السابقة، لم يُسمِّ أولئك اللصوص. ثم زاد في وعيده، حين أردف قائلاً: "صبري نفد وكان لا بدَّ من استعادة دولة القانون". وما دامت خطوة استعادة دولة القانون قد اتّخذت فلماذا لا يحاسب اللصوص منتهكي القوانين؟ كذلك، إذا لم يكن هذا هو الوقت المناسب لتسميتهم بالاسم وتوقيفهم لمحاسبتهم، فمتى يكون؟ ومع التدقيق في خطاباته، نكتشف أن الرئيس لا يعرفهم فحسب، بل هو يعرف عددهم بدقة؛ إذ أعلن، خلال لقائه رئيس الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية، بعد ثلاثة أيام من اتخاذه التدابير إياها، عن عدد 460 شخصاً نهبوا أموال الدولة، وقال إنه عرض عليهم تسويةً تقضي بإعادة هذه الأموال.
يدين الرئيس سعيِّد نفسه، في كل إقراراته وكلامه عن معرفته بالفاسدين والمقصّرين واللصوص، كونه لم يتخذ أي إجراء لتغيير واقع الحال خلال سنتين أمضاهما في رأس السلطة. وقد قال في كلمته بعد إعلان التدابير، في سياق حديثه عن تحرّكات الفاسدين: "كنت أعلم الكثير وأنا ملازمٌ للصمت لأنني آثرت أن أحترم المؤسسات كما جاء بها الدستور". ويعدُّ هذا الكلام في لغة القضاء عملية تستُّرٍ على مخرّبي اقتصاد البلاد وناهبي أموالها. وكانت فترة السنتين هذه كفيلةً بأن يفتح جميع الملفات ويحاسب الجميع، حتى المتمارضين المتغيبين عن أعمالهم. وإنْ لم يفعل ذلك، فإن هذه المدة كانت كفيلة بأن يضع خلالها خططاً مستقبلية لحماية دولة القانون عبر تدابير، غير تدبير الانقضاض على السلطتين، التشريعية والتنفيذية، وخرق الدستور، كما فعل قبل أيام. وفي هذا السياق، فإن تقديم شخصٍ واحدٍ للتحقيق والمحاكمة على فساده كان كفيلاً بأن يجعل السبحة تكرّ، ويقاد جميع الفاسدين إلى المحاكم والسجون. وكان يمكن، خلال فترة حكمه هذه، إعادة أموال الدولة المنهوبة، والتي وعد بإعادتها، لتنعكس تنميةً وبحبوحة يعيشها التونسيون، غير أنه لم يفعل ذلك، بل وكما لم يتقدّم ببرامج وخططٍ في أثناء حملته الانتخابية، أو بأي خطة لمكافحة الفساد، لم يتقدّم، حين أصبح في سدّة الحكم، بخطة للتنمية أو للخوض في مسألة العدالة الانتقالية لإقفال ملفات ما قبل الثورة، مستمرّاً بالحديث في العموميات.
لم يتقدّم، حين أصبح في سدّة الحكم، بخطة للتنمية أو للخوض في مسألة العدالة الانتقالية لإقفال ملفات ما قبل الثورة
لقد كبَّل الرئيس سعيِّد نفسه بالإجراءات التي اتخذها، وهو ما يبرِّر لبعض المحللين توصيف ما حدث بأنه انقلاب الرئيس على نفسه. إذ إنه لم يعيّن رئيس حكومة، بعدما عزل رئيس الحكومة، هشام المشيشي، وبعدما جمَّد عمل مجلس النواب. وهو بذلك يُدخل البلاد في فراغ دستوري وفراغ سلطة بعد تجميد عمل السلطة التشريعية وعزل السلطة التنفيذية. أما حين سيعين رئيس حكومة، لا يوجد برلمان ليمنحه الثقة بعدما جمّد عمل مجلس النواب. ومن الواضح أنه لا يأبه لتداعيات هذه الأعمال على حياة التونسيين المعيشية وأعمالهم، خصوصاً في ظل أزمة كورونا الضاغطة، وأزمات البلاد المالية والاقتصادية، والتي ليست سوى انعكاس للأزمة السياسية التي عاشتها البلاد على مدى السنتين الأخيرتين، بسبب الصراع على الصلاحيات بين الرئاسات الثلاث.
قال الرئيس سعيِّد، في خطاباته ولقاءاته، إنه اتخذ تدابيره استناداً إلى الدستور، غير أن الدستور، وخصوصاً المادة 80 التي استند إليها، تنص على أنه خلال حالة الطوارئ التي يعلنها الرئيس، يجب أن يكون مجلس نواب الشعب "في حالة انعقاد دائمٍ طيلة هذه الفترة"، لكنه جمَّد عمل هذا المجلس فخالف الدستور وجرَّ البلاد إلى أزمة دستورية، وظهرت لديه نيّات التفرّد بالحكم. في هذه الحالة، إذا أراد الرئيس تنفيذ وعوده ومحاسبة الفاسدين، ومنهم من كان في الحكومة وفي مجلس نواب الشعب الذي رفع الحصانة عن أعضائه، فليس هنالك ما يضمن أو يمنعه من ألا يفتك بجميع معارضيه تحت بند مكافحة الفساد. وبالاستناد إلى الوقائع التي تقول إنه لم يقدّم فاسداً واحداً من الذين يعلم بهم، تصبح الخشية، في هذه الحالة، أن يَقصِرَ حملة المكافحة على المعارضين السياسيين، خصوصاً منهم الذين طالبوا، وما زالوا يطالبون، بمكافحة الفساد والبتّ في مسألة العدالة الانتقالية، وغيرها من الملفات الموروثة التي تمنع القطع مع ماضي تونس ما قبل الثورة، ويترك، بالتالي، الفاسدين طلقاء، بعدما تسلَّق على وعود مكافحتهم للوصول إلى الحكم، ولإعلان تدابيره.