... وفيه انطوى العالم الأكبر
غيّب الموت قبل أيام قليلة الفلكي الكويتي صالح العجيري، الذي أصبح اسمه وحده علامة فارقة في تاريخ الكويت، بل والعربي المعاصر كله، باعتباره أشهر علماء الفلك وأول من صنع من علم الفلك خبزا يوميا على موائد الناس، من خلال تقويمه "تقويم العجيري" الذي نادرا ما نجد بيتا أو مكتبا في الكويت والخليج يخلو منه منذ نحو ثمانين عاما. نطالعه يوميا ونقلب صفحاته لنقرأ أدقّ تفاصيل الطقس والمناخ والحكم التي يذيل بها العجيري صفحات ذلك التاريخ كخلاصات للتجربة المعتقة في أحوال البلاد والعباد في كل مكان.
تلقّى العجيري، المولود على أرجح الأقوال في 1920، تعليمه الابتدائي في الكتاتيب، قبل أن ينتقل الى المدرسة التي أنشأها والده لتربية الأطفال، ثم التحق بالمدرسة المباركية التي بدأ فيها نبوغه في العلوم الحسابية والفلك، حيث شجّعه والده على التخصص في ذلك العلم المثير، فأرسله لتلقي مزيد من علومه على يد أفراد من قبيلة الرشايدة، يقيمون في بر رحية جنوب غرب مدينة الجهراء شمال الكويت، ومنها انطلق للتميز في علوم الفلك بشكل غير مسبوق، متكئا على قراءاتٍ نهمة كل ما يتعلق بهذا العالم، حتى قاده شغفه إلى العمل بمهن، كالتعليم والتمثيل، لم تفقده اهتمامه الأساسي بعالم السماء والنجوم، فذهب إلى مصر ليستكمل دراسته في جامعة الملك فؤاد الأول التي نجح فيها في نيل شهادته الأولى بالآداب والعلوم، وبعدها شهادة من الاتحاد الفلكي المصري بتخصص علم الفلك، ليعود إلى الكويت، مؤمنا بأنه سيبقى تلميذا في مدرسة علوم الفلك حتى النهاية.
وعلى الرغم من شهرة تقويمه الذي ظل يصدر بأشكال وتنويعات مختلفة منذ العام 1944، إلا أنه لم يكتف به، بل أصدر كتبا وتقاويم وإصدارات أخرى عديدة. ومن المحطات المهمة في رحلة حياته إنشاؤه مرصدا فلكيا خاصا به وشراؤه قبة سماوية علمية مصغرة، قبل أن يتطور ذلك المرصد وتلك القبة، لتحملا اسمه في حفل افتتحه أمير الكويت الراحل، جابر الأحمد، في منتصف ثمانينيات القرن الماضي.
ومرّ العجيري بمحطات حزينة كثيرة في حياته، أشهرها وفاة زوجته وابنه البكر في حادثة حريق منزله قبل عشرين عاما تقريبا، لكنه لم يتوقف كثيرا عند تلك المحطات الموجعة، فقد ظل مؤمنا أن الأعمار بيد الله، وأن البشر، مهما أوتوا من قوة، لن يستطيعوا تغيير الأقدار، ولكنهم يعرفون كيف يهيئون أنفسهم بتقبلها. ولهذا أجاد العجيري صنع الابتسامات على شفاه من حوله من معارف وأصدقاء، وممن لا يعرف من الناس الذين كانوا يحرصون على تبادل الحديث معه في كل فرصةٍ متاحةٍ ليحظوا بجرعاتٍ من الفرحة، كان رحمه الله قادرا دائما على تحضيرها وتوزيعها في أحلك الظروف.
والعجيري الذي شكّل ظاهرة فريدة من نوعها في جيله وكل الأجيال اللاحقة، باعتباره مثقفا موسوعيا نادرا في تكوينه العلمي والثقافي، لم يكن يؤمن بفكرة التقاعد عن العمل. وبقى حتى بعد أن تجاوز المائة من العمر مخلصا لتلسكوبه الشهير، يناجيه يوميا ويتواصل من خلاله مع النجوم، ليبقى مرجعنا الموثوق به لمعرفة المواقيت والتواريخ وأحوال الطقس بدقةٍ لا تكاد تضاهيها نشرات الطقس التلفزيونية المتكئة على أحدث منتجات تكنولوجيا العلوم التطبيقية، الأمر الذي رسّخ مكانته في وجدان الناس، وبالذات قبيل شهر رمضان أو يوم عيد الفطر، فكثيرا ما خالفت توقعاته التوقعات المعلنة رسميا ليتضح للجميع لاحقا أن توقعاته هي الصحيحة، بما يتوافق وصحيح العلم.
لم يساهم العجيري، رحمه الله، بصنع التاريخ الكويتي المعاصر، ولم يوثق يومياته بل وساعاته بتلك الدقة الشديدة وحسب، بل أصبح أيضا جزءا منه.. وها هو يرحل بعد أن "انطوى فيه العالم الأكبر".