''وقتٌ مستقطع للنجاة'' وتوثيقِ الإبادة
على الرغم من شهور مضت على كتابته ونشره، لا يزال كتاب ''وقت مستقطع للنجاة... يوميّات الحرب في غزّة'' (الأهلية للنشر والتوزيع، عمّان، 2024)، للروائي ووزير الثقافة الفلسطيني السابق عاطف أبو سيف، محتفظا براهنيّته التي لا تعني، هنا، غير استمرار حرب الإبادة الجماعية التي تشنّها دولة الاحتلال على قطاع غزّة منذ أكثر من سنة.
يبدو الكتاب (631 صفحة)، شهادة حية على ما اقترفه جيش الاحتلال بحقّ الإنسان والمكان، في غضون زيارة الكاتب غزّة، والتي لم يكن يتوقع أنها ستدوم قرابة ثلاثة أشهر، ''شهد خلالها رحيل كثيرين ممن يُحبّ (..) ص 7. ولعل اللافت، والمؤلم في الوقت نفسه، في ''يوميّات الحرب في غزّة'' أن ضحايا الإرهاب الصهيوني ليسوا الذين نقرأ أنباء استشهادهم، ولا نزال، في شرائط الأخبار أسفل الشاشات، وليسوا الذين نسمع أعدادهم (بالأرقام) من المذيعين والمذيعات؛ إنهم الأهل والأقارب والجيران والأصدقاء والمعارف، بأسمائهم وحيواتهم ومآسيهم وأحلامهم التي أقبرتها آلة القتل الإسرائيلية أكثر من 80 يوما، قضاها الكاتب شاهداً على أحد أكثر المقاطع إيلاماً في تاريخ التراجيديا الفلسطينية. لا يبدو عاطف أبو سيف، في هذه اليوميات، معنيّاً، فقط، بالعدوان على غزّة حلقةً في حروب طويلة شنتها دولة الاحتلال على الشعب الفلسطيني، بقدر ما هو معنيٌّ، أيضا، بتوثيق الواجهة الأخرى للحرب؛ الواجهة التي، عادة، لا يلتفت إليها الإعلام، لغزارة تفاصيلها الإنسانية التي تتوطّن الحيوات المغدورة للنساء والأطفال والشيوخ وغيرهم من الضحايا، بما فيها من مسرّات وأحزان وأحلام. إنهم ''الناس الطيبون الذين شاركوا الكاتب التجربةَ والحياةَ والنجاةَ ومحاولةَ الهرب من الموت، وبعضهم قتلته الحربُ ..." ص 9.
كان الكاتب حريصاً، أيضاً، على صيانة ذاكرة المكان الغزّاوي (الفلسطيني) في مواجهة حرب إبادة موازية، شنّها الاحتلالُ باستهدافه جغرافية هذا المكان ومعالمه المختلفة، من خلال تدمير ممنهج توخّى محو الذاكرة الفلسطينية، ليس فقط كذاكرة جماعية وطنية، بل أيضا كذاكرات شخصية تخصّ كل فلسطيني عاش في غزّة. نقرأ في ص 197 ''قصفوا حارتنا. أزالوا جزءاً كبيراً منها. أغارت الطائرات على منطقة السنايدة من الحارة، وأزالوها عن بكرة أبيها. بدا المكان مثل مشهد ختامي من فيلم عن نهاية الكون (..)''.
بالطبع، لم يكن تدوين هذه اليوميات أمراً سهلاً بالنسبة للكاتب، أمام ضراوة القصف الإسرائيلي على القطاع من دون توقف تقريباً، هذا إضافة إلى أن إيجاد ظروفٍ ملائمة لاستعادة ما شاهده وعايشه، ورصّه وصياغته، وفق مما تتطلبه حرفيةُ الكتابة، يبدو صعباً، بسبب الدمار الهائل الذي أحدثه العدوان في المباني والمنشآت والمرافق المختلفة. ورغم ذلك، نجح عاطف أبو سيف، بحسٍّ توثيقيٍّ بادٍ، في جعل هذه اليوميات شهادة إنسانية، ممهورةً بالدم والنار، على وحشية العدوان الصهيوني وسفالةِ العالم الذي ترك غزّة وحيدة لمصيرها المحتوم.
أكثر ما يوجع في ''يوميّات الحرب في غزّة'' أن كثيرين ممن نصادفهم في الصفحات الأولى، في غضون بحثهم عن ملاذاتٍ آمنة هرباً من القصف الإسرائيلي، سرعان ما يلتحقون بمن سبقوهم من شهداء في الصفحات الموالية. وعلى الأغلب، إن لم يكن في حكم المؤكّد، أن كثيرين ممن بقوا أحياء حتى نهاية الكتاب (اليوم 85) قد باتوا في عداد الشهداء، أولئك ''الباقون، الذين رغم كل شيء أبطال، لأنهم ما زالوا أحياء، وما زالوا يناضلون من أجل الاستمرار في الوجود'' (ص 174).
لا مبالغة في القول إن كتاب "وقت مستقطع للنجاة" إضافة نوعية للتاريخ الاجتماعي للقضية الفلسطينية، في أحد أطوارها الأكثر دراماتيكية منذ النكبة. إنها وثيقة تاريخية تجعل من محرقة غزّة مقطعاً يأبى النسيان، وتعيد إلى الواجهة مأساة السكّان الأصليين في العالم في مواجهة مشاريع الاستعمار والاستيطان والاستئصال والإبادة والتطهير العرقي، التي يمثل الكيانُ الغاصبُ أكثر تبدّياتها وحشيةً.