وماذا إن لم تقع الواقعة؟
بين هبّة ساخنة وأخرى باردة، تتناوبان بانتظام على مناخ الشرق الأوسط، ووسط فيض متلاطم من التقديرات المتباينة، بين من يرجّحون احتمال نشوب حرب إقليمية كبيرة إن فشلت مفاوضات فيينا، ومن يطفّفون من وزن هذا الاحتمال، تزدحم منابر الإعلام بآراء وسيناريوهات، عن توقيتات الحرب وعن ساحاتها وعن تداعياتها، من دون أن يحظى احتمال عدم نشوب هذه الحرب بأيّ نقاشاتٍ جادّة تستكشف ماهية المعادلة الإقليمية المتخلقة من رحم المعادلة الراهنة.
ذلك أنّ المحللين، السياسيين منهم والعسكريين، لم يتركوا أمراً من أمور الضربة الجوية المحتملة، أميركية أم إسرائيلية، إلاّ وقلّبوه ظهراً وبطناً، ومضوا خِفافاً ثقالاً وراء تداعياته الممكنة، وشخّصوا مضاعفاته الكارثية على هذه المنطقة، بما في ذلك الخسائر البشرية واختلال التوازنات السياسية والعسكرية المرتقبة، وما قد يلحق باقتصاديات النفط من آثار كارثية. إلّا أنّ أحداً لم يجشّم نفسه إجراء مقاربة افتراضية لسيناريو فشل المفاوضات بشأن الملف النووي الإيراني من دون وقوع الواقعة، والتعرّف من ثمّة على نتائج تحقّق الإيرانيين من ارتداع أميركا، ومن عجز إسرائيل عن القيام، منفردةً، بضربة قد تجرّ عليها سيلاً من الهجمات الصاروخية الانتقامية.
من المرجّح ألّا تظل هذه المنطقة، إن لم تقع الواقعة، على سيولتها السياسية الراهنة، متموضعةً بين تحالفات واصطفافات وخيارات ليست كلها من صنع أيديها، وألّا تبقى تراوح، في الوقت ذاته، بين رؤيتين ومعسكرين ونهجين، أدّى استفحال التضارب بينهما إلى ما نراه من استعصاءاتٍ وانسداداتٍ تواجه قوى الاعتدال والممانعة.
يمكن الافتراض من دون مجازفة، أنّ انكفاء خيار الحرب، أو إرجاءها، خيارٌ ينطوي على تطوّر عميق الغور وواسع المدى، يؤدّي إلى سلسلةٍ من التفاعلات الدراماتيكية، يعيد بناء توازناتٍ جديدة، وينشئ واقعاً جيوبولوتيكياً لا يشبه في مبناه ركام الواقع الراهن، وقد يفضي بكلّ الأطراف إلى الوقوف على استنتاجاتٍ جديدة، ربما ستكون أكثر أهميةً من الاستنتاجات المترتبة على وقوع الحرب ذاتها.
يُعدّ انكفاء خيار الحرب تطوّراً استراتيجياً كبيراً، يُحسب لإيران وحلفائها، ويفتح أفقاً واسعاً أمام تقدّم نهجها وتعزيز خطابها وصورتها ودورها، بوصفها مركز ثقل إقليمي ذي مصداقية، يتمتّع بالجدارة لقيادة المنطقة، أو للهيمنة عليها، من موقع البطولة الملهمة، خصوصاً إذا حدث هذا كله من غير إبرام صفقة تقاسم مصالح أو مساومة، إذ ستبدو المحصلة هذه وقد أثمرت ثمارها بأداء تفاوضي باهر، وهامش ضئيل من المناورة الحاذقة.
إذا كان من المقدّر لدول المشرق العربي أن تشهد جملةً من التفاعلات العميقة، جرّاء تراجع خيار الحرب، فإنّ من المقدّر أيضاً ألّا تكون إسرائيل في منأى عن هذه التفاعلات بعيدة المدى، سيما أنّها الأكثر مخاطبةً بهذا التطوّر الذي سيملي على الدولة المهدّدة بالشطب عن الخريطة القيام بسلسلة موازية من الاستخلاصات الصعبة، في المقدّمة منها انتهاء عهد التفوّق العسكري الإسرائيلي النوعي على المحيط المجاور، والقبول مكرهةً بمبدأ العيش تحت تهديد الخطر الوجودي قبالة قوةٍ شبه نوويةٍ معاديةٍ وغير مساومة، والتكيّف مع تداعيات ذلك على صورة الدولة العبرية، وعلى مضائها ومكانتها، وفوق ذلك على ثقتها بنفسها حقيقة نهائية من حقائق المنطقة.
والحق أنّ اندلاع هذه الحرب متغير ينطوي على تحولات كبرى، إلّا أنّ انكفاء خيار الحرب ينطوي، في المقابل، في المديين، المنظور والبعيد، على تحوّلات استراتيجية أكثر أهمية، وعلى اختراق إيراني هائل، وهو أمرٌ يستحق، في حد ذاته، بذل جهود فكرية رصينة من المعنيين بهذا السيناريو غير المرجّح، لما لهذا الاختراق من نتائج بالغة الأثر على حاضر هذه المنطقة ومستقبلها.
وتظلّ الأسئلة التي يطرحها احتمال عدم وقوع الواقعة أصعب إجابةً من أسئلة الحرب، وأنّ الرهانات التي ستنعقد في فضاء تلاشي خيار ضرب إيران أوسع مدى من الرهانات المعلقة في سماء هذه الضربة، وأنّ التداعيات السياسية، وربما المذهبية، ناهيك عن المضاعفات المقدّر لها أن تتوالى إلى زمنٍ غير قصير، وأن تتراكم نتائجها غير المباشرة في المدى الطويل، أن تعيد إنتاج واقع شرق أوسطي مختلفٍ عما هو عليه الواقع الراهن، لا تُحسد عليه أميركا والدول العربية، كما لن تكون فيه إسرائيل في موقع الكبش داخل قطيع النعاج، ولا في مكانة الطائفة الممتازة وسط طوائف رثّة.
لذلك كلّه، يبدو وقوع الواقعة مرجّحاً بكل قوة.