وماذا بعد؟
يأتي السؤال، هذه الأيام، بصيغ "عربية" مختلفة، في مبناها، وإن اتفقت في معناها ومغزاها. أصحاب السؤال ليسوا ضد القضية الفلسطينية كما يقولون، لكنهم ضدّ "حماس"، التي لا تمثل الفلسطينيين "المعتدلين"، ليسوا ضدّ حقّ المقاومة، لكنهم ضدّ العمليات التي تستهدف المدنيين "الإسرائيليين"، ليسوا ضدّ الاحتفاء بمنجز "طوفان الأقصى"، لكنهم ضدّ الفرحة غير المحسوبة أو المدروسة. والخلاصة: قلوبنا مع فلسطين، وأقلامنا مع الرواية الإسرائيلية.
يتجاوز أصحاب الرواية العربية "المؤسرلة"، طوعا أو كرها، جرائم الاحتلال وانتهاكاته المستمرة منذ سبعة عقود، أو يثبتونها "سد خانة"، قبل أن يتجاوزوها إلى اختزال المقاومة في توجّهاتها الأيديولوجية، لا يستعيرون مصطلح "داعش غزّة"، الذي استخدمه وزير الدفاع الإسرائيلي، يوآف غالانت، لوصف المقاومة، لكنهم ينطلقون من عمقه لوصم المقاومة بـ "الإسلاموية"، التي هي بالضرورة أصولية ورجعية وشعبوية ومتطرّفة، فإذا أضفنا إلى ذلك كله استهداف المدنيين، لا يبقى شيءٌ على داعش. يحمّل المؤسرلون المقاومة، هنا والآن، مسؤولية كل شيء يحول بينهم وبين حقّهم البديهي في تحرير بلادهم، يشبه الأمر وصلة "ردح" في مواجهة فعل المقاومة، فالمشكل ليس في إسرائيل، هنا يمكن إضافة "وحدَها" احتيالا، إنما في خذلان الفلسطينيين أنفسهم، متاجرة بعضهم (بنكهة كلهم) بقضيتهم، إضاعتهم فرصا تاريخية للتسوية، إفشالهم اتفاق أوسلو؛ الذي سمح بنشأة السلطة الوطنية الفلسطينية، ومهّد لحلّ الدولتين، دعمهم النضال المسلح، بوصفه جريمة! استيلاء حركة حماس على قطاع غزّة بقوة السلاح، صراعاتها مع حركة فتح، ثم تأتي عملية طوفان الأقصى بوصفها حلقة من حلقات أخطاء المقاومة، أو نتيجة لها، لا لجرائم المحتلّ وانتهاكاته. حتى خذلان المحيط الإقليمي للفلسطينيين، وتحولّه إلى متفرّج، ثم إلى حليف، ومسالم "دافئ" للمحتل، بل ومقاوم للمقاومة الفلسطينية، ذلك كله تتحملّه المقاومة، في الخطاب المؤسرل، فالمقاومة، الآن، فعل مؤامرة، ليس ضد إسرائيل، (هنا يمكن حذف "وحدها")، بل ضد الفلسطينيين الذين ليس من مصلحتهم أن ينتصر الإسلاميون، ثم يحكموهم فإذا بنتائج حكم الإسلاميين أسوأ من نتائج الاحتلال نفسه، الأمر الذي تُخبرنا به تجربة حزب الله في لبنان، كما أن المقاومة مؤامرة على الإقليم، إذ تدعمها إيران، وتخوض بها حربا بالوكالة، في إطار مشروع إيراني توسّعي. وعليه، فإن امتناع الإقليم عن دعم القضية الفلسطينية جريمة يتحمّلها الفلسطينيون، كما أن الامتداد الإيراني في فراغات التطبيع العربي الإسرائيلي، بدوره، مشكلة على الفلسطينيين، وحدهم، أن يجدوا لها حلا، والخلاصة: إيران (ومعها المقاومة الفلسطينية) أخطر من إسرائيل.
ثمّة جرائم حرب وحشية ترتكبها إسرائيل، الآن، في قطاع غزّة... آلاف من الضحايا المدنيين، ألف ضحية على الأقلّ من الأطفال، قطع للماء والكهرباء، ورفض لمرور الأغذية والأدوية والمساعدات الإنسانية، مع غطاء إعلامي غربي لا يقلّ جرما في ترويجه أخبار قطع رؤوس الأطفال الإسرائيليين وغيرها من الأكاذيب، فهل يبدو طرح أخطاء المقاومة الفلسطينية، هنا والآن أو الإشارة إلى انحيازاتها الأيديولوجية فعلا نقديا مستحقّا وواجبا، في الظروف العادية، أم دعما أكثر ذكاء (وانحطاطا) من دعم الإعلام الغربي لأكاذيب المحتل؟ تُخبرنا عملية طوفان الأقصى بأشياء كثيرة، مختلفة ومتناقضة، تخبرنا عن المقاومة وخصومها، عن صمود قطاع غزّة ودعايات الجيش الإسرائيلي، عن الداخل العربي وشعوبه وأنظمته، عن إيران ومشروعها، عن العالم الذي نعيش فيه، حرّياته الهشّة، وهمجيّته "الأصيلة"، تمنحنا العملية "الاستثنائية" وغير المسبوقة، مساحاتٍ واسعة للقراءة والتأويل والتبرير والتمرير ومحاكمات السياسات والأيديولوجيات والتواريخ، لكن شيئا واحدا لا يسع أحدُ أن ينكره، أن القضية الفلسطينية غير قابلة للتفكيك أو التصفية، وأن المزيد من الجرائم الإسرائيلية أو محاولات تهجير الفلسطينيين "مدفوع الأجر"، لن يعني سوى المزيد من المقاومة. الفلسطينيون لا يموتون، ومن ورائهم شعوبٌ عربيةٌ لم تفلح كل محاولات تشويه القضية في صرفها عنها، ولم يزدها قصف "المحتل المحلي" سوى حياة... أو كما قال محمود درويش ردّا على سؤال وماذا بعد؟
ماذا بعد؟ صاحت فجأة جنديّةٌ:
هُوَ أَنتَ ثانيةً؟ أَلم أَقتلْكَ؟
قلت: قَتَلْتني... ونسيتُ، مثلك، أن أَموت.