وهج المكتبة
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية
تبرز في رواية المغربي محمود عبد الغني القصيرة "البورخيسة" (دار المتوسط، ميلانو، 2024) المكتبة بطلاً رئيساً، رغم وجود الفتاة "سارة"، التي تحرّك السرد حتّى آخر صفحة في الرواية. تبدو هذه الفتاة مأزومةً، تداري تحطّمها النفسي بالدخول في علاقات فاشلة، من ضمنها تجربة زواج قصيرة، لا ثقة لها بالرجال، لذلك تكون الكتب هي العزاء.
تجد "سارة" في المكتبة، التي تعمل فيها موظّفةً، راحتها ونجاتها ومستقرّها النفسي. يتقمّص الكاتب عبر السرد دور فتاة، ومن خلال تقنية "الفلاش باك" يعرّفنا إلى علاقاتها السابقة، من ضمنها علاقة بفنّان تشكيلي مهووس، لا يرسم إلّا الخراف، يتركها فجأة ليهرب إلى ألمانيا، فتجد "سارة" في المكتبة حضناً بريئاً بين كتب غريبة عليها، تحاول أن تقرأها من دون أن تكمل العديد منها، وبذلك تنتقل بشغفٍ من كتاب إلى آخر، لتكون سانحةً للمرور على عناوين كتب كثيرة. وفي علاقتها بالمكتبة لا تقف عند حدّ القراءة، بل تبتكر مساقاً تطويرياً للمكتبة، حين تقترح على صاحبة المكتبة فكرةَ البيع، حتّى في وقت الإجازات، على أن تقوم "سارة" بذلك بكلّ سعادة. الاقتراح يلاقي قبول صاحبة المكتبة.
بسبب هذه الفكرة المبتكرة ازدادت مردودات البيع، ولأنّ لكلّ نعمة حاسداً، فقد انبرى أحد موظّفي المكتبة القدماء، يصفه السارد بـ"الكهل القبيح"، الذي يعمل في مكتب إشرافي معزول في المكتبة، مرتفع قليلاً عن الأرض، يراقب من خلاله موظّفي المكتبة. هذا الكائن "القبيح" يُشكّل في الرواية رمزاً لعدوّ المواهب الطموحة، ومصدراً دائماً للإحباط، فانبرى يراقب "سارة" وينبش حياتها السابقة، ويدخل في صدامات خبيثة معها، يزداد سُعارُ هذه الصدامات حين تغيب صاحبة المكتبة فترةً طويلةً، إذ اعتادت أن تذهب هي وعائلتها إلى أوروبا وأميركا بين فترة وأخرى. في هذه الأثناء، يجد الرجل البغيض ساحةً واسعةً لإيذاء الموظّفة "سارة"، إلى أن يتسبّب بطردها، كما تسبّب من قبل في طرد موظّف طموح في المكتبة، "نور الدين"، الذي أحبّ المكتبة أيضاً إلى درجة أنّه اقترح على صاحبة المكتبة أن تعمل إطاراً لصور بعض الكتّاب العرب والعالميين تضعها على جدران المكتبة، رحَّبت صاحبة المكتبة بالفكرة، فازدانت جدران المكتبة بـ"بورتريهات" الكُتّاب، من ضمنهم عبّاس محمود العقّاد.
الرواية ممتعة، وكما تقرأ للكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس، فإنّ شيئاً من سحره المُتعلّق بالمكتبة والكتب يتسلّل إليك وأنت تبحر في هذه الرواية القصيرة، التي تقف عند 79 صفحة بالتمام والكمال. وما يميّز هذه الروايات القصيرة هو الصوت الواحد والتكثيف، وتجنّب التعمّق في النفسيات. وهي روايات (الناجحة منها خصوصاً) تترك أثراً بعيداً عند قرّائها، إذ إنّ الإشاري والملحمي يُغني عن الوصف المُسهب. في هذه الرواية القصيرة سيتعرّف القارئ أيضاً إلى سجلّ واسع من أسماء الكُتّاب والكتب والموسوعات في مجالات شتّى، وكأنّ السارد يعرض لنا ما قرأ بورخيس من طريق هذه المكتبة "البورخيسة"، وبالتالي يجد (الكاتب) أيضاً سانحةً منطقيةً ومناسبةً لاستعراض قراءاته المتنوّعة.
ما يميّز الروايات القصيرة أيضاً إمكانية قراءتها في جلسات قليلة، وغالباً لا تتجاوز ثلاث جلسات مركّزة. وتتيح مثل هذه الروايات أيضاً، بسبب حجمها القصير، إمكانية اللعب، أي أن يضع الكاتب مادَّته الحكائية في إطار لعبة يُشارك بها قارئه. فالفتاة، بطلة الرواية، التي تتمتّع بالجمال والجاذبية، تدخل في حوارات مع بعض روّاد المكتبة، ولأنّها لم تعد تثق بالشباب بسبب تجاربَ فاشلةٍ سابقةٍ، فإنّها تتعرّف إلى رجل مُسنٍّ، فتبدأ الرواية بحوار معه، وتنتهي أيضاً بحوار معه. وكانت النهاية، التي اختارتها الرواية، هروب بطلتها إلى تجربة حياتية جديدة، ولكن هذه المرّة مع رجل يحمل تجربةً عريضةً في الحياة بسبب كبر سنّه، وقراءاته الموسوعية؛ فكثير ما يخرج من المكتبة ومعه موسوعة ما، الأمر الذي يدلّل أيضاً على ثرائه النسبي.
ألا يمكن أن يكون هذا المُسنّ بورخيس نفسه؟ خصوصاً أنّه يعلم عن بورخيس تفاصيلَ دقيقةً أخبر بها بطلة الرواية، التي لم تكن تسمع عن بورخيس من قبل لولا حديثه لها عنه. اختفت البطلة في نهاية الرواية بعد مضايقات من الكهل القبيح، ويمكن للقارئ أن يظنّ أنّها التجأت إلى الرجل المسنّ لتعيش معه حياةً جديدةً، التجأت إلى بورخيس.
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية