وهم العودة إلى ما قبل الطوفان
سوف تتوقّف الحرب، مهما طال الوقت أو قصُر، وسينتهي العدوان الأكثر همجيةً ونازيةً في التاريخ، وسيعود الضحايا إلى أطلال بيوتهم المدمّرة بفعل القصف الصهيوني، لكن شيئًا واحداً لا يمكن أن يعود، وهو الوضع الفلسطيني قبل 7 أكتوبر.
يُخطئ من يتصوّر أو يتوّهم أن بالإمكان استعادة معادلة الصراع كما كانت قبل "طوفان الأقصى"، فهذه نتيجةٌ مستحيلةٌ تجاوزها الزمن، ولن يعود إليها، والنتائج المستحيلة هي بالضرورة تعبّر عن خطأ في التقدير وفي القراءة، وليس أكثر خطأً من قراءة 7 أكتوبر أنه كان لحظة عابرة، مقطوعة الصلة بما كان قبلها وما سوف يأتي بعدها.
لم يكن ما جرى حالة عراكٍ مفاجئٍ بين طرفيْن، ولا مغامرة فلسطينية بنت اللحظة فجّرت جنوناً صهيونياً، كما لم يكن ردّة فعل غير محسوبة على تصرّفٍ بعينه، كأن يقال إنها جاءت ردّاً على الإهانات الإسرائيلية للمسجد الأقصى فقط، أو أنها انفعالٌ زائدٌ ضد سفالة اليمين الصهيوني الحاكم، كما من المعيب والمشين بالطبع أن يتخرّص بعضُهم بربطها بمعادلاتٍ إقليميةٍ أكبر.
طوفان الأقصى، كما أفهمه من خطاب المقاومة الفلسطينية، وكما أراه في وجوه الشعب الصامد في غزّة معركة على طريق الحلم الأكبر والهدف الأسمى: معركة التحرير، والكفاح من أجل استعادة الأرض والتخلص من احتلالٍ هو الأكثر خسّةً وبشاعة في التاريخ. وبالتالي، من العبث تصوّر أن الطوفان هو آخر المعارك، كما يهذي الكيان الصهيوني، وهو يتحدّث عن أحلام اليوم التالي لتوقّف الحرب، وأوهام ما بعد القضاء على المقاومة الفلسطينية، وما تسمّى ترتيبات تفصيل السلطة الفلسطينية المسيطرة على قطاع غزّة، وفقاً لمقاسات الاحتلال وعلى هواه.
ذلك كله هراء لن يتحقق، والعدو الصهيوني وراعيته أميركا يعلمان ذلك، بل تغيّرت التصريحات الصادرة عن الجانبين بشأن مرحلة "الما بعد" كثيراً في منطوقها ومحتواها، خلال الأسبوعين الماضيين عما كانت عليه قبل بداية العدوان الإجرامي على غزّة.
هذا الهراء أسقطته بسالة المقاومة، وقبلها نبل الشعب الفلسطيني الذي اجتمع أشرار العالم كله على محاولة إجباره على الخضوع لسيناريوهات التهجير والتوطين في الشتات، فبقي على أرضه واقفاً مثل جذور الأشجار الضاربة في عُمق التربة، ولم يستسلم لتحالف الخوف والموت والجوع والعطش.
هذا الشعب بعد كل هذه التضحيات، نحو 24 ألف شهيد و350 ألف جريح ومُصاب، لن يرضى بالعودة إلى حالة ما قبل 7 أكتوبر، حتى لو تفاهم السياسيون واتفق المفاوضون، ذلك أنه يدرك أن الثمن المدفوع من الدماء والأشلاء والبيوت المهدّمة والزرع المحترق يستحقّ أكثر بكثير مما يدور الحديث بشأنه، من إعادة إعمار على نفقة الأنظمة العربية التي سكتت وادّعت العجز أمام المجزرة المتواصلة منذ مائة وخمسة أيام.
تمثل فكرة إعادة بناء غزّة بالأموال العربية منتهى الإهانة لغزّة وشعبها، ومنتهى الاحتقار للنظام العربي، وكأن وظيفته الأولى تحمّل نفقات نزوات الكيان الصهيوني ومغامراته، وكأنه طفله المدلّل، يضرب هنا ويكسر هناك ويحرق ويقتل، ثم يأتي كفيلُه العربي ويدفع تعويضاتٍ عن كل ذلك.
مرّة أخرى، يؤمن أصغر طفل فلسطيني بأن ما جرى ويجري هو واحدةٌ من جولات معركة الحلم المؤجّل منذ 76 عاما، فلا تضحكوا على أنفسكم بأوهام ما قبل الطوفان وما بعده، وكما قلتُ سابقاً في ملحمة صمود المقدسيين بوجه الاحتلال والدفاع عن المسجد الأقصى: كل الأوهام سقطت في ليالي القدس المباركة، واستردّت الكلمات معانيها الصحيحة والحقيقية، فعرف الكلُّ أن التطبيع الحقيقي هو أن تحتضن شقيقك الفلسطيني وتصير القدس قدسك كما هي قدسُه، والأرض أرضك كما هي أرضه، والوجع وجعكما معًا والحلم حلمكما على السواء، والاحتلال ينهش روحك كما ينهش روحه، ويهينك كما يهينه.
وهكذا أقول في الطوفان أيضاً.