ووقعنا في الفخّ يا عادل إمام
تقوم "القوة الخارقة" لـ "الرجل العنكبوت"، على تمكّنه من تسلّق الجدران، بخفّة. مع الأخذ بالاعتبار تفضيله الأماكن العالية لشبكاته، بعيداً عن مكامن الخطر. أما "السيدة العنكبوت" فقوّتها تكمن في قدرتها على تشبيكنا بإحكام أمامها. نحن الذين كنّا جاهلين من دون مساراتها المُتشعّبة، التي تجعلنا جميعاً نتسلّق جدراناً غير مرئيّة، لنقفز من مكان إلى آخر، ومن زمان إلى آخر، خارقين كلّ قوانين الفيزياء.
تُرى، كم جداراً تسلّقنا، منذ أوّل إطلالة لنا في بلاد العنكبوت "الإنترنت"؟ يستحيل أن نتذكّر كلّ ما عرفناه منذئذ، أو كلّ الذين عرفناهم عبرها، أو جهلنا السابق أو جهل الآخرين. مرّة ذهبتُ إلى حمّام مغربي، وكانت العاملة متمكّنة جداً من مراحل التقشير والتّرطيب والتّدليك، كما لم أرَ من قبل. توقّعتُ أن تكون قد درست في مراكز تعليمية مُهمّة. لكنّها أجابت بلامبالاة: تعلّمتُ من "يوتيوب" فقط. يشبه ردّها أن يخبرك شخص ما أنّه اشترى خاتماً ثميناً من بسطة "الفرّاشة" في الشارع. يا للُّقيمة الثمينة! لعلنا لن نصدق، كمّ من موسيقيّ تعلم العزف من "يوتيوب"ّ! وكمّ من مبرمجين ومصوّرين وطبّاخين وآخرين، أخذوا العلم بالمجّان، بعد أن وجدوه ملقياً في الشّارع؛ "شارع العنكبوت"! كما لا ميزان نُقدّر به العلم، الذي يأتينا من "غوغل"، بنقرة واحدة نبحث فيها عن معلومة كانت تستعصي علينا لولاه، أو ننبش كُتباً ما كنّا لنصل إليها ولا تصل إلينا. الحصول على العلم سهل في بلاد "السيدة العنكبوت"، وكذلك سرقتُه. فيأخذ "الباحثون" بحوثَ الجامعاتِ جاهزةً من غوغل من دون تغيير، ومن دون خجل. رغم أنّ منتوج الإنترنت معروفٌ ومُكرّر، يحفظه الأساتذة لشدّة ما مرّ عليهم، لكنّ طلبة عصر العنكبوت خرجوا من واسع الأبواب، لدهنِ عجلاتِ مسارهم اللّاعلمي.
وجد الصحافيون، أيضاً، في خيوط العنكبوت مصدراً مباشراً لهم. معنى المباشر هنا هو القصّ واللصق. بلا إشارة إلى المصدر الأصلي، معظم الأحيان. المهمّ هو ملءُ الفراغ، وملاحقة سرعة الحياة. لذا، في مقابل المعرفة التي أتاحها لنا علم السرعة، أفقدَ روح المعرفة لدى فئة هائلة تعتمد على توصيل المعلومة "من/ إلى"، من دون أن تمتصّها، خوفاً من أن تواصل مسارها على السطح، ولا تنفذ إلى داخل الناس، فيصير الجهل خفّة، والعلمُ متاعٌ يُؤخذ عند اللزوم بقفّازين، ويوضع بعدها سريعاً في مكانه.
ما أبعدَ اليوم عن البارحة، قبل عهد العنكبوت، الذي كسر هدوء الحياة، وفتح أبواب العثّ والعبث، فلا يمكن أن تفتح النافذة لتُدخل النّسيم فقط من دون غبار، ولا الشّمس فقط. افتَح أمام الكلّ، أو أغلق أمام الكلّ، لا فارق. نُحبّ أن نعرف، لكنّ المعرفة ثقيلة. فكم يعذّبنا العجز بعد المعرفة عن مجازر غزّة. وكم تعذبنا المعرفة بكلّ المجازر في العالم والجرائم، والعجب العجاب الذي يحدث، ولم نكن لنعرف عنه لولا العنكبوت. أظن حتّى أكثرنا لن يستطيع المفاضلة بين ما نستفيد منه، وما نتضرّر منه في حياتنا. لعلنا سنكذّب على أنفسنا، ونقول: الحياة من دونه أفضل؟ لكن من أيّ ناحية هو كذلك؟ ليس لنا، سوى أن نردّد خلف عادل إمام: "لقد وقعنا في الفخّ والوخّ...".
لكن، هل صيّرنا الإنترنت كالحمار يحمل أسفاراً؟ أو لعلّه هو الحمار الذي يحمل الأسفار؟ ويجعل الذين يقتاتون من معرفته، يقدّرونها ويدبّرونها بدل القصّ واللصق. بعدما لم يعد الطلبة يشدّون الرحال إلى بلدان بعيدة، ومدن مهجورة من أجل مراجع أصلية. فهناك جهات شدّت رحال العلم من رفوف المكتبات، إلى أرشيفات رقمية، يمكن الاطلاع عليها من بُعد. لكن، يبدو أنّ صناعة محتوى سطحي ضحل، أسهل من الغوص في المراجع القديمة لنقدها. أو ربما يجب نسيان القديم، والبدء من جديد. لكن كيف نبني على فراغ؟ ويبقى أقصى ما نصل إليه في باب العنكبوت، هو حُسن الاطلاع، وتعلّم المهارات. لكن، لا يمكن أن نبني معرفة أصيلة وأصلية، إذا لم نغلق الشّاشة ونفتح الكتب، القديم منها والجديد. ولن نعود إلى السفر من أجل العلم، فهناك "أَمازون" لذلك، يُمكنه أن يحمل لنا الأسفار، لعلنا لن نكون كالحمار سواء إن حمَل الأسفار أو حُمّلت له.