يا فرحة إسرائيل بالصراع الديني
عند التفكير بأسباب هزائمنا الفلسطينية، يسهل استحضار العوامل الخارجة عن إرادتنا. أما الاعتراف بمسؤولياتنا، فغالباً ما يكون عسيراً. يخطر في البال الدعم الأميركي المطلق، والأوروبي النسبي، لإسرائيل، والتواطؤ العربي، وعدم التزام تل أبيب باتفاقيات أوسلو، وتغير الظروف الإقليمية والعالمية، والاستفادة القصوى للحركة الصهيونية ولوبياتها من هذا التغيير، وتحولات الأمزجة الشعبية وتوازنات القوى المختلة منذ انهيار المعسكر الاشتراكي... ولمّا تعجز هذه التفسيرات عن الإحاطة بكامل صورة الخسائر المتتالية، نلجأ إلى سلاحنا الفتاك: المؤامرة على العرب وعلى المسلمين. أما أخطاء الحركة الفلسطينية، ومصائب مجتمعاتنا وتناقضاتها الداخلية وتخلفها، وجعل نسبة وازنة من الرأي العام العالمي تنفر من خطابنا، وجرائم من يدّعون دعم "القضية" بحق القضية نفسها، وارتهان القرار الفلسطيني تاريخياً لأنظمة تتاجر بالقضايا وبالدم، وغياب الديمقراطية عن نهجنا وتفكيرنا، واستيلاء التيارين، الديني والعقائدي، على ميكروفون "الموت لإسرائيل"، فهذه كلها ليست إلا إضعافاً لنفسية الأمة وتزويراً للتاريخ بالنسبة لعقول الممانعة.
رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنية، هو تكثيف لرموز هذا المعسكر في المواقف وفي شرح "الإطار النظري" للقضية الفلسطينية أيضاً. يوم الأحد، قال إنه في معركة "سيف القدس"، "الله أيدنا بنصره، وألحق بجيش العدو هزيمة غير مسبوقة (...) وهي نقطة تحوّل ستترك أثرًا عميقًا في زوال الاحتلال". لا جديد في نبوءات هنية، فأهزوجة الانتصارات التي تتوالد كانت تصمّ الآذان حتى خلال قصف الأيام الـ11، واستمرت بعد توقف القتل والدمار وصمدت حين كان المقدسيون يهجَّرون من منازلهم (وهو ما كان حجّة صواريخ حماس في مايو/ أيار الماضي). الخسائر الهائلة بالأرواح والممتلكات تصبح انتصاراً بحيلة لغوية، والهزيمة السياسية المتمثلة في تسريع وتيرة القضاء على ما تبقى من وجود عربي في القدس وفي الضفة، خلال الجولة الأخيرة من الحرب وبعدها، لا يلحظها العقل الممانع، ذلك أن المهم هو استمرار الحرب. شعاره: إنني أحارب إذاً أنا موجود. إنني أحارب إذاً فأنا أنتصر.
اللاجديد حول الانتصارات الدائمة في خطاب هنية أمام "الملتقى العلمائي الدولي الثالث" المنعقد في غزة، قابله لا جديد آخر، لكن قوله هكذا، في عام 2021، ليسمعه العالم، ولنخسر المزيد من المؤيدين، يصبح وقعه بقيمة الموقف نفسها كما لو كان جديداً: الصراع مع الاحتلال على أرض فلسطين هو صراع ديني عقائدي، قال هنية.
في منطق الصراع الديني ــ العقائدي، ليس هناك حق لأي من طرفَي النزاع، فكلاهما يستمد أحقيته من مرجعية تقع في منزلة خارجة عن أي محاسبة، من الآلهة والمطلق والكلي، ففي حضرة المقدّس، تغيب السياسة كما هو معلوم. القضية الفلسطينية في منطق الصراع الديني، هي وجهة نظر، ذلك أن العقل الصهيوني يمارس استعماره الاستيطاني لفلسطين باسم الدين أيضاً. نواجهه بمنطق ديني آخر، فيصبح التعادل أقصى ما يمكن أن نطمح إليه في المعركة على الإقناع، ذلك أن لا رابح ولا خاسر في حرب دين ضد آخر. في منطق الصراع الديني، نقزّم فلسطين من قضية تحرر وطني من استعمار إحلالي استيطاني، إلى مسجد هنا وكنيسة هناك لا يعنيان شيئاً إلا لفئة من الناس، مثلما أن في المعسكر المقابل رواية دينية توراتية تتمسك بدورها بما تعتبرها مقدّسات يهودية في فلسطين. في كل مرة يسمع حكام إسرائيل كلاماً من نوع أن قضية فلسطين حرب دينية، تكبر فرحتهم، فطالما أنها حرب دينية، وطالما أنهم الطرف الأقوى فيها عسكرياً وسياسياً واقتصادياً (إلا باعتقاد الممانعين طبعاً)، فإنهم لا شك غالبون.
لإسماعيل هنية الحق بأن يؤمن بما يرغب به. لكن ليس له الحق بإخبارنا عن طبيعة القضية الفلسطينية، فلا هي ملك لدين ولا لفصيل ولا لعقيدة. فلسطين قضية تحرر وطني من استعمار استيطاني إحلالي، قضية إنسان لا عقيدة، قضية بشر لا أديان، قضية حرية وتقرير مصير لا مسألة كنيسة ومسجد وكنيس.