يسار صبياني في خدمة أصولية حزب الله "الناضجة"
إعلامية ممانعة، التقيتُها في إحدى حانات بيروت قبل سبع سنوات تقريباً. لنقل إنّ اسمها أميرة. امرأة ناجحة بكلّ المقاييس. ومبتهجة بحظها في هذه الدنيا. تحتسي كأس البيرة، وتتكلم عن حياتها بفرحة من تحققت أمامه السبل. وأنا أقول لنفسي إنّ هذه حالة نادرة جداً، أن ألتقي ممانعة غير مكفهرة، غير عبوس. هي تنقض كلّ نظرياتي عن عدم حبّ الممانعين الحياة. بل أذهب أبعد، وأخمِّن أنّ "يساريتها" السابقة والراهنة هي التي تسبغ عليها هذا الحب. وتمضي بضع دقائق على هذه الحال من البرَكَة، حتى يحصل ما كنتُ في غنىً عنه في تلك السهرة. يمرّ بالقرب منا صديق قديم، كان قد اختفى منذ سنوات، وعلِمنا من أصدقاء مشتركين أنّه هاجر إلى أفريقيا، ومن ثم إلى الولايات المتحدة. سلام وكلام، ثم ما يشبه المتفجّرة، يطلقها الصديق متنهّداً: "آه! ما أجمل لبنان... طلعت...". لا تتركه أميرة ينهي جملته. تصرُخ غاضبة: "لبنان؟! ما أجمل لبنان!؟ كيف تقول ذلك؟! ولبنان سايكس بيكو؟ ولبنان الكبير الفرنسي... إلخ". تنسى أميرة الكأس، وتمضي في التشنيع بلبنان... ولا يفيد شيء بتغيير مزاجها المتعكِّر، إلّا الانصراف.
كيف تكره أميرة لبنان، تعيش فيه، تتنعّم بخيراته وتتمتع فيه بكلّ أسباب نجاحها؟ تعجبتُ من أميرة في تلك الليلة. هي ممانعةٌ صحيح. لكنّها علمانية، يسارية، ومقْبلة على الحياة. كيف تكره لبنان؟ لكنّ دهشتي لا تطول. كان حريّاً بي أن أتذكّر لحظتها "السَّنَد النظري" لأميرة. وهو صاحب أضخم "إنتاج" صحافي لليسار الممانع. ينشر بانتظام في الصحيفة اللبنانية الأولى الناطقة باسم حزب الله. وقد "أصّلَ" لثابتة ترنو إلى الأبدية. لازِمةٌ طرق بها رؤوسنا طوال كتاباته، حتى صارت من بديهياته، ماركته المسجَّلة.
تقول اللازِمة إنّ لبنان لا يساوي شيئاً يُذكر. إنّه "الوطن المسخ". وبعد فترة، يقْلبه، فيكون "مسخ الوطن"
تقول اللازِمة إنّ لبنان لا يساوي شيئاً يُذكر. إنّه "الوطن المسخ". وبعد فترة، يقْلبه، فيكون "مسخ الوطن". وما حجّته؟ إنّ لبنان لم يعرف يوماً زمناً جميلاً. والدليل، بداية، كقاعدة "مفهومية" لفكرته: تقسيم المنطقة. سايكس - بيكو. لبنان الكبير. على يد الاستعمار. اللبنانيون فيه أغراب عن بعضهم. وهو ليس واحداً منهم. "أرزهم" أرزة جبال الأرز، رمز لبنان، رمزه الوطني ... "أرزهم" هذه "لا تستحق غير الاندثار". حتى الشجر عنده لا يستحق الحياة.
لماذا؟ لماذا كلّ هذا الحقد على شجر لبنان وبشره؟ وربما أيضاً حجره؟ لأنّ العصور التي عرفها اللبنانيون كانت كلها جهنّم بجهنّم: عنده أنّ لبنان "كان جميلاً" فقط بالنسبة إلى أناسٍ معينين، هم "نخبة المجتمع البرجوازي السمج في لبنان"، وأنّ حبّ لبنان هو "قومية شوفينية"، وأنّ الرئيس فؤاد شهاب (1958 - 1964) كان على "تحالفٍ غير معلن مع إسرائيل"، وأنّ التدخل الأجنبي وقتها كان على غاربه، وأنّ كلّ الشخصيات السياسية كانت تعتريها شرور جوهرية، وأنّه لو كان هذا الزمن جميلاً لَما لحقته حرب أهلية مدمّرة، وأنّ اتفاق الطائف "اعتنق عقيدة حزب الكتائب النازية بالكامل"... ولا حاجة للمزيد، والاستنتاج معروف: هذا اللبنان الذي تتعلقون به لا يساوي شيئاً. لا في ماضيه القريب، ولا البعيد. وعصره "الذهبي" الذي تفخرون به، وتحنّون إليه .. لم ينْوجد أصلاً.
تنظيرات الممانع اليساري قديمة. عمرها عشر سنوات. كانت مبثوثةً في العقول الخلفية لأصدقائه وأشباهه. غير معلنة كثيراً. غير شائعة. لكنّها متينة.
تنظيرات هذا الممانع اليساري قديمة. عمرها عشر سنوات. كانت مبثوثةً في العقول الخلفية لأصدقائه وأشباهه. غير معلنة كثيراً. غير شائعة. لكنّها متينة. تسير بخطى واثقة نحو العقل العلني، حتى بلغت الآن الشاشة الصغيرة والمقالات الأكثر تداولاً في البيئة الممانِعة. تلفزيونيون، صحافيون، معلّقون على المواقع .. يتغنون بتلك الفكرة: إنّ لبنان لم يعرف في كلّ تاريخه عصراً ذهبياً، وكلّ الكلام عن مظاهر هذا العصر كاذبة، ملفقة؛ "تزوير للتاريخ"... ويتوقفون عند هذا الحدّ. عندهم أنّه يكفي تكرار هجاء لبنان. انعدام قيمته، وتاريخه، وضع عصوره كلها في الخانة الممْقوتة. شعور عارم بالكراهية تجاهه، والتخلي عنه، بالاستهزاء بكلمة "وطن" نفسها إلى ما هنالك من عبارات؛ كلّ واحدةٍ منها كفيلة باتهامه بـ"إضعاف روح الأمة" في أيّ بلدٍ طبيعي، أو حتى عادي.
لماذا؟ ما الذي يدفع هذه الفئة من إعلاميي الممانعة ومنظّريها إلى المبالغة في شتيمتهم لبنان؟ ما الذي يحيي هذه المبالغة، ويمنحها أجنحة الذيوع بين الناس، عبر "نخبة" إعلامية أو ثقافية أو تلفزيونية؟ فكرتُ في البداية أنّ هؤلاء ولدوا بعد انتهاء العصر الذهبي اللبناني، وأنّهم ربما لا يعرفونه، إلّا بما تقول الكتب والوثائقيات وقصص أهلهم. وكلّها "مصادر" يسهل عليهم تكذيبها بسلاح القوة الصرْفة. هذه فكرة ضعيفة، وإن كانت قد دعمتهم قليلاً. لأنّ الكهلة من بينهم الذين نقلوا بندقيتهم إلى الكتف الثانية، وهم الأقل مرئية، عرفوا ذاك العصر، ويستمدّون منه شيئاً من عمقهم وهيبتهم، ولا يستطيعون الاسترسال كثيراً في هجائه من دون الوقوع في الإحراج والمغالطات.
يتغنون بتلك الفكرة: إنّ لبنان لم يعرف في كلّ تاريخه عصراً ذهبياً، وكلّ الكلام عن مظاهر هذا العصر كاذبة، ملفقة؛ "تزوير للتاريخ"
ربما شيء آخر أيضاً: أن يكون أولئك المنظّرون، وأغلبهم يساري المنشأ "علماني" التوجه، قد تغلّب عليهم الزمن. وبقوا، مثل كثيرين من نظرائهم، متوقفين عند لحظةٍ معينةٍ من يساريّتهم، وقت مراهقتهم الأولى، تلك التي تسبق التزامهم، عندما كانوا يرشقون كلّ شيءٍ بحجارة الرفض المطلق. لكنّ إصرارهم الآن على مراهقتهم لا يتناغم أبداً مع سينيكيتهم التي تنضح بها مواقفهم الرديفة الأخرى، القائمة كلّها على قياس موازين القوى، وعلى الاستقواء بـ"انتصاراتهم"، فكيف تقترن "براءة" المراهقة بإثم الاستكْبار؟ أم أنّها خدمة "نظرية" لمصلحة عهد حزب الله؟ عهد يريد أن يكون تأسيسياً جديداً على لبنان، يلغي كلّ ما سبقه من التاريخ، على أساس أنّ التاريخ يبدأ عنده، وقبله لم يكن هناك سوى توحّش واستغلال وهوان، واستعمار وإمبريالية .. وفي عقل حزب الله الخلفي، وفي مشاعر أبناء بيئته، وأبناء الطائفة الشيعية التي يهيمن عليها هيمنة الآلهة، هذا العصر المسمّى "ذهبياً" كان أبناء الطائفة الشيعية مستضعفين، محرومين، على هامش القرار "كناسين، حمّالين ..!" وأنّه لا يمكن أن يكون ذهبياً ذاك العصر الذي كانت الطائفة مغيَّبة وملفوظة، وأنّه لم يكن وطناً، ولا بلداً مثل كلّ البلدان. وفي أساسه خطيئة أصلية، البريطانيون والفرنسيون، إلخ.
وتكون خلاصة المعادلة هذه أنّ هذا العصر وحده، هذا العصر الذي ينهار فيه لبنان، هو العصر الذهبي بعينه. لا قبله، ولا غيره. ولتعبئة الفراغات، يختم بأنّ الدليل على ذلك: أنّ لبنان عاش طوال عمره بلا قضية. وها هو الآن يقدّم نفسه للقضية. طبعاً هذا كلام البروباغندا الحزبية، اللصيقة والحليفة، لا فرق. ما دامت الحليفة تقدّم "خدمات" كهذه، فيكون هدم لبنان شيئاً لا يذكر، بعدما هدمت فكرته.
هل من "انتصار" أوضح من هذا؟ أن تقضي على بلد بعينه، لأنّه لم يكن بالأصل بلداً، وبحجّة لا تُرَدّ، اسمها "القضية"؟ وعلى قاعدة "نظرية" يحفر في نتوءاتها نوابغ صبيانيون، من بقايا اليسار الآفل. وهذا من أنواع المواريث التي لا تُغتفر.
ومتى تُطرَق كلّ هذه المطارق على رأس اللبنانيين؟ عندما صار أي عصرٍ سابق على الانهيار ذهبياً. عندما صارت الحرب الأهلية نفسها، التي لا يتوقف الممانع عن ابتزازنا بها، هي الجنّة الخالصة قياساً إلى هذا القتل اليومي للبنانيين، على نيران "قضيتهم" البطيئة، إذ ما قيمة اللبنانيين بعدما يكون لبنان جديراً بأن يموت؟