يناير: الشباب والشيخوخة
قال عبد الفتاح السيسي لجمهوره الذي انتقاه فردًا فردًا لحضور حفلته الأحدث، إن ثورة يناير 2011 أصابته بشيخوخةٍ مبكّرة، وسرقت منه نضارة الشباب، إذ كان كما قال يبدو بملامح شاب دون الثلاثين من العمر، قبل أن يباغته الربيع العربي في 2011 ويقطف زهرة شبابه.
الكلام بهذه الصيغة، يفجر، كالعادة، موجات من السخرية، لا تخرُج عن سياق مهرجان الضحك القومي على مساخر أهل السلطة، وجديدها أخيرا أرجل الفراخ وقيود واشتراطات الحصول على رخصة زواج، التي تبدو أصعب وأكثر كلفة من استخراج رخصة قيادة طائرة أو بارجة حربية.
هل حقا أصابت ثورة يناير الشباب بالشيخوخة المبكّرة وخطفت وسامة الجنرال المزعومة؟ هل فرضت على مصر والمصريين ملامح كهولة قبل الأوان؟ الشاهد أن يناير كانت ثورة على التكلس والتيبّس الذي اعترى مفاصل البلاد، فتركها قعيدة محدودة القدرة عاجزة عن الحركة، منسحبةً من أدوارها المعتادة في محيطها الثقافي والسياسي والجغرافي والتاريخي.
جدّدت ثورة يناير شباب الدولة المصرية وضخّت في عروقها دماءً قبل أن تتحوّل جثة هامدة في كتاب تاريخ الأمم المنهارة والحضارات المنقرضة، بل إنها أضفت من شبابها وحيويتها على عواجيز السياسة ممن دبّت فيهم الحركة والرشاقة فقفزوا إلى ميادينها يبحثون عن شطيرةٍ من كعكة الانتصار المؤقت الذي صنعه الشباب، فرأينا عمرو موسى، مثلًا، يرتدي ثيابه الشبابية ويهبط على الميدان، بوصفه من الثوار الحكماء، ليخرج منه وفي يده رئاسة حزب سياسي طامح في السلطة، ثم يرشّح نفسه لرئاسة البلاد.
جدّدت يناير، كذلك، شباب محمد البرادعي، وحوّلته إلى مرشح للإجماع الوطني لحكم البلاد الذي لفظته في السابق وأشبعته نهشًا وركلًا وتشويهًا، فأعادته الثورة ومنحته فرصة العمر ليترجم كل أقواله إلى أفعال، غير أنه أطاح ذلك كله وخذلها، منسحبًا من السباق الرئاسي، ومن المكانة الرفيعة التي وضعته فيها الثورة، ليعود كما بدأ: مغرّدًا من الخارج في الشؤون الدولية، لا يقوى على الاشتباك، ولو تغريدًا، مع الأحداث المصرية.
هي الثورة التي أعادت كل شيوخ السياسة إلى صباهم، والأمثلة كثيرة ومتنوّعة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، وجدوا معها إحساسًا بأنهم أحياءٌ يتطلّعون إلى مستقبل، خصمًا، للأسف، من رصيد الشباب الحقيقي الذي صنعها وصدّق حكماءها وآمن بأطروحاتهم، فداهمته أعراض الكهولة واليأس، وهو في عمر الحلم والأمل.
وحدَهم أعداء يناير وكارهوها الذين استشعروا أنهم غرباء على اللحظة، لا لشيءٍ إلا لأنهم ينتمون للاستبداد القديم، والفساد القديم، الضارب بجذوره في عمق ثلاثين عامًا على الأقل، ويرون أنفسهم أبناء شرعيين للدولة الهرمة، الكارهة للتغيير والحركة، فلما داهمها حراك التغيير وجدت نفسها ملقاة على جانبي الطريق، يتملكها إحساس الشيخوخة وهاجس توقف الحياة.
من الطبيعي أن يكون 2011 العام الأصعب على كل أولاد الهرمة، التي احترفت التسوّل بعجزها وشيخوختها، وراحت تطفئ كل شعاع أمل في التجديد والانطلاق، ومن أعز أولاد هذه الدولة وورثتها عبد الفتاح السيسي، الذي نسي أن يقول إنه بعد أن اختفت دموية شبابه من وجهه في 2011 عاد واستردّها في 2013 بإراقة كميات هائلة من دماء يناير، التي منحته النضارة والازدهار، والقدرة على الفوز في ماراثونات الدرّاجات الهوائية، التي يقيمها كل فترة، ويستعرض فيها أحدث ماركات الملابس الرياضية الشبابية.
والأمر كذلك، سيبقى يناير الشهر الرجيم الملعون، من أهل السلطة، كونه تحوّل منذ العام 2011 إلى شهر للتغيير، وانتقل من برد الشتاء وانكماشه إلى حيوية الربيع وتدفقه، يكرهه السيسي كما كرهه من قبله حسني مبارك وأنور السادات، الذي باغتته انتفاضة الشعب المصري في 18-19 يناير 1977 حين اقترب من خبزهم اليومي، فلقّنوه درسًا انتهى بإجباره على التراجع عن كل قراراته الاقتصادية التي رفضها المصريون.
يناير 2011 هو ابن يناير 1977 وكل ما يشبهه من محطّات نضال وطني تجلت فيها الإرادة الشعبية رفضًا لسياسات وإجراءات تهين مصر والمصريين، وهي إجراءات تبدو هينة للغاية إذا ما قورنت بالجرائم التي ترتكب بحق الجماهير الآن.
يعرف يناير الضائع في التيه أن له أهلًا سيسألون عنه ويبحثون عنه ويستردونه يومًا، وهو الهاجس الذي يطارد أعداء يناير في صحوهم ومنامهم، ويدرك أهل يناير أنه ليس مجرد نوستالجيا حزينة لماضٍ ولًى، بقدر ما هو تطلّع إلى مستقبل بدأ يتخلق منذ 12 عامًا ولم يكتمل.