يناير القديم: حين غضبت شعوبٌ لخبزها وكرامتها
اليوم وغدًا 18 - 19 يناير/ كانون ثاني، اكتملت 46 سنة على انتفاضة الشعب المصري ضد مجموعة من القرارات الاقتصادية برفع الدعم عن بعض السلع الأساسية، ما أدّى إلى رفع أسعار الخبز والسكر والشاى والأرز والزيت والبنزين وسلع أخرى.
لم يسكت المصريون، فاندلعت على الفور انتفاضةٌ شعبيةٌ شاملة، انطلقت أولًا من التجمّعات العمّالية الكبيرة في مختلف المحافظات، حيث خرج العمال إلى الشوارع، وسرعان ما انضمّت إليهم جميع فئات الشعب المصري، هاتفين ضد الفقر والجوع ومنادين بسقوط حكومة الدكتور عبد المنعم القيسوني ونظام أنور السادات، الخاضع حديثًا لإملاءات السياسة الأميركية.
لم يهدأ الشارع، حتى ألغيت القرارات المفجرة للغضب وأقيلت الحكومة، غير أن متظاهرين كثيرين جرى اعتقالهم وتقديمهم للمحاكمة، بعد أن أطلق إعلام السلطة على التظاهرات"انتفاضة الحرامية"، بينما هي في الواقع كانت انتفاضة الشعب كله، دفاعًا عن خبزه وكرامته.
كان هناك استبداد وإعلام ساقط، لكن كان أيضًا قضاء نزيه ووطني ومحترم ومستقلّ، عبّر عنه المستشار الجليل حكيم منير صليب رئيس هيئة المحكمة التي تنظر القضية المتهم فيها 176 مواطنًا استبق السادات محاكمتهم، وقرّر أنهم مشاغبون وحرامية، ومن ثم توقّع الجميع أحكامًا مشدّدة ضدهم، غير أن القاضي المحترم أصدر حكمه ببراءة جميع المتهمين، وسجّل حكمًا تاريخيًا بحيثياتٍ تعد من درر العدالة والوطنية، إذ قال: "والذي لا شك فيه، وتؤمن به هذه المحكمة، ويطمئن إليه ضميرها ووجدانها، أن تلك الأحداث الجسام التي وقعت يومي 18 و19 يناير 1977 كان سببها المباشر والوحيد هو إصدار القرارات الاقتصادية برفع الأسعار، فهي متّصلة بتلك القرارات اتصال المعلول بالعلة والنتيجة بالأسباب، ولا يمكن في مجال العقل والمنطق أن تُرد تلك الأحداث إلى سبب آخر غير تلك القرارات، فلقد أصدرت، علي حين غرّة، وعلى غير توقّع من أحد، وفوجئ بها الناس جميعا، بمن فيهم رجال الأمن، فكيف يمكن في حكم العقل أن يستطيع أحدٌ أن يتنبأ بها، ثم يضع خطة لاستغلالها، ثم ينزل إلى الشارع للناس محرّضا ومهيجا".
في تونس، مهد الربيع العربي، والتي سبقت مصر بعشرة أيام فقط في ثورتها، تجد انتفاضة خبز مشابهة في يناير/ كانون الثاني (جانفي) من العام 1978 إبّان حكم بورقيبة، احتجاجًا على إجراءات اقتصادية وسياسية، ثم في يناير (جانفي) 1984 فيما عرفت بثورة الخبز التي اشتعلت ولم تنطفئ إلا بتراجع سلطة بورقيبة عن قراراتها وإجراءاتها.
وفي الحالتين، المصرية والتونسية، فيما خصّ الخبز كانت الجماهير هي الطليعة، وهي القائد لتلك الانتفاضات ومفجّرها ومحرّكها، من دون تدخل أو حشد أو توجيه من نخبٍ سياسية، بل وجدت هذه النخب نفسها جزءًا من تيار شعبي تشكل تلقائيًا، ثم التحق به الجميع تباعًا.
كانت انتفاضة الخبز، مصريًا وتونسيًا، من روافد الغضب الذي سطع في يناير/ كانون الثاني 2011 ليتوّج مسيرة من الفعل الشعبي والحيوية الجماهيرية، دفاعًا عنها عن الحقّ في الحياة الكريمة، وطلبًا للعدالة الاجتماعية، والمثير للدهشة هنا أن ذلك الغضب البعيد، الذي كان قبل أربعة عقود، كان ردّة فعل منطقية ومستحقة على إجراءاتٍ وقراراتٍ لا تقارن بما تفعله السلطات الحالية في شعوبها.
ما يجري الآن مع الشعب المصري هو، من دون مبالغة، نوع من القمع والقهر المنهجي الذي يتّخذ هذه المرّة أشكالًا اقتصادية تسحق المواطن في قوته ومعيشته، بعد أن أجهزت على حرّيته وصادرت حقه في التعبير عن الرأي، أو حتى عن الألم مما يجري له. وعلى الرغم من ذلك، لا ردة فعل هناك من أجل الخبز أو الحرية، اللهم بعض التنفيس عن الوجع إلكترونيًا باستخدام سلاح النكتة، تعبيرًا عن بركان غضبٍ مخبوء في الصدور التي أنهكت بفعل الضربات العنيفة من سلطةٍ قرّرت، منذ اللحظة الأولى، تجفيف كل منابع الغضب وإحراق أراضيه، والتنكيل برموزه ليكونوا نموذجًا رادعًا لمن تسوّل له نفسه الاحتجاج على مظالم أو المطالبة بحقوق.
إمعانًا في الإذلال والإهانة والتنكيل، لا تكلف السلطة نفسها عناء التودّد إلى الجماهير أو استعطافها بشعارات رنّانة عن مؤامرة الاستهداف الخارجي، بل راحت، وبمنتهى الصراحة والوقاحة، تحمّل الشعب القسم الأكبر من المسؤولية عن تردّي الأوضاع، لأنه يتزوج وينجب فيرفع التعداد السكاني، كما أن لديه عادات غذائية سيئة، وسلوكيات في الإنفاق، تلحق الضرر بالوطن وتعرّض أمنه القومي للخطر، كما أن يجب أن يقبّل يد الحكومة ورأسها وقدمها لأنها تبيعه الطاقة بأسعار مدعومة تقلّ عن مثيلاتها في أوروبا.
وهكذا، تدور عملية قلب الحقائق من أجل تحويل الخطاب، بحيث يجد الشعب نفسه متهمًا في وضعية الدفاع، بدلًا من الهجوم على سياسات التخريب التي ينفّذها نظامٌ أدمن الاستدانة من الخارج للإنفاق على السفه بالداخل.
ورغم هذا كله، يبقى السؤال: هل، حقًا، ماتت القدرة على الغضب داخل الشعوب؟