يوم في ذاكرة بيروت
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية
تنشغل رواية اللبناني رشيد الضعيف "ما رأت زينة وما لم تر" (دار الساقي، بيروت، 2024) بحدثين، وباء كورونا ويوم انفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس/ آب 2020، وبذلك سجّلت الرواية القصيرة (حوالى 100 صفحة) ذلك الحدث الدامي في زمنٍ يمكن تسميتُه، واقعياً، زمن كورونا. تتخلّل ذلك معاناة مركّبة، تعكسها تفاصيل ومشاعر كأنما مهّدت للانفجار الكبير. حضور يقابله غيابٌ كاملٌ عن الحياة، بل هناك غيابٌ يؤدّي إلى غيابٍ آخر، حين ترى الأم جثة ابنتها التي تعمل في المستشفى، فتأخذ شظيّةً زجاجية من بين الركام المتناثر وتنحَر نفسها. هذا الحدث الدامي الذي كان بسبب إهمال إداري، كما تورد الأخبار، حيث أهملت شحنة مصادرة من نترات الأمونيوم كان من المفترض شحنها بأسرع وقت إلى خارج لبنان، لتخلّف الفاجعة ما يقرب من مائتي ضحيّة قضوا إثر الانفجار وأضعافهم من الأحياء عانوا حزناً مضاعفاً، ضمنهم شابّة كانت تحمّم رضيعها في "البرندة"، وهي تضحكُ بحماسٍ وتخاطب جارتها زينة (بطلة الرواية)، "وقد ضحكت زينة أيضا من كل قلبها، وهي تتفرّج على الأم وطفلها التي قالت حين لاحظت وجودها على الشبّاك إن عيش هذه اللحظة وحدها يستحقّ منها الحبل والإنجاب". ولكن حوض الماء الذي كان يستحم فيه الرضيع ما لبث أن امتلأ بالدم.
رواية خفيفة من حيث التقديم والتسلسل، أشبه بفيلم مرئي تتحرّك كاميرته في يوم واحد لتصوّر ما تراه عينا زينة بطلة الرواية، وما تشعُر به من اعتمالات ولواعج ملتهبة تجاه الحال الضاغط والمصير الغامض المفتوح على أقسى أنواع الاحتمالات. تبدأ الرواية بحالة تأهّب خروج البطلة من بيت مخدوميها بعد انتهاء يوم عملها، على أن تأتي في اليوم التالي، وبين يديها شيءٌ من مؤونة المطبخ، وهي محتارةٌ بعد أن تعلم أن سعر الليرة انخفض أمام الدولار، متسائلةً إن كان سيكفيها المبلغ الذي أعطته إياها مخدومتُها، حيث سيرتفع سعر كلِّ شيءٍ نتيجة هذا التذبذب اليومي للعملة المحليّة.
هنا، كأنما السارد يمهّد لنا مقدّمات اليوم الدامي عن طريق تفاصيل تبدو هامشية، ولا تعني أحداً. ولكن جرى تقديمها بنوع من الدراما الحركية الشائقة، حيث إن زينة، القلقة على ابنتها بشرى التي قطعت دراستها الجامعية بسبب الشح وقلة ذات اليد، تواجِه صعوبة في تلبية المطالب الخاصة لابنتها ذات الجاذبية والطلعة الجميلة، ما لا يتناسب مع حالة أهلها، ولا مع انقطاع الكهرباء في الحي والحرمان المتقطّع من ماء الاستحمام الذي تحرص عليه الفتاة، فيكون خوف الأم عليها من الوقوع في أي فخٍّ وإغراء مضاعفا. وحين لا تردّ الابنة على اتصالات أمّها، تتصل الأخيرة بأختها التي تعيش معها، رغم علمها أن الأخت "ماري" تتستّر على ابنة أختها ولا تعلم أمها بكل شيءٍ عن خروجها. كل تلك التفاصيل والمشاعر المتوترة ستصير إلى ذكرى بعيدة، بسبب الواقع الزمني الجديد الذي أحدثه الانفجار "ليس بركانا ما حدث. أعظم من ذلك. ليس زلزالا ما حدث. أعظم من ذلك. قصف بالطيران، انفجار صهريج مليء بـ تي أن تي، قنبلة عظمى تطايرت شظاياها بسرعة هائلة في كل اتجاه. كل ما يسبّب كارثة عظمى يمكن أن يكون قد وقع! تحوّلت نوافذ الشقّة إلى مستطيلاتٍ فارغة. امتلأت أرضُ الشقّة بالخراب. صار المكان في زمان آخر".
وفي ساعات الكارثة، تنكشف المشاعر وتتعرّى، بُشرى التي كانت تشتكي من مراقبة أمّها والصراخ اليومي الذي لا يفتر بينهما. في يوم الانفجار، تبحث عنها بين الأنقاض وهي تبكي وتلهج باسمها. وزينة (الأم) وبدافع من النبل، وهي تنهض من بين الأنقاض، تتقدّم باحثة عن مخدومتها التي تقطن في حيٍّ أبعد من الذي تسكن فيه: "وإذا بزينة تنهض فوراً وتخرج، كأنها ورقة طيرها الهواء.. أو بالأحرى كأنها الوفاء يأبى الخذلان. الوفاء المطلق".
يتجلى السياق التوثيقي في الرواية أشبه بتقريرٍ سرديٍّ غير مملّ، يرصف مآلات الحدث وكل ما يحيط به من ضغط نفسي على الشخصيات في وسط ضغطٍ عام في الشارع من زحمة وغلاء وشتائم وقلة تحمّل، ما يسفر عنه انفجارٌ هزَّ المدينة كاملة وقوّض جانبا من عمرانها وهدّ عددا غير قليل من نفسيات سكّانها.
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية