شرطة الجزائر تتظاهر فمن يفرقها؟
كانت خيوط فجر يوم الاثنين الماضي (13 أكتوبر/تشرين الأول الجاري) تتسلل ببطء، لتزيح التثاؤب عن وجوه المستيقظين الأوائل من سكان مدينة غرداية الجزائرية (600 كيلومتر عن العاصمة).
لاحظ المشاؤون، في الصباح الباكر، حركة غير اعتيادية أمام مقر محافظة الشرطة الرئيسي في المدينة. حشد من رجال الشرطة يبلغ المئات فاض بهم الشارع، وارتفعت أصواتهم عالية. في سماء المدينة، كانت هناك طائرة هيلكوبتر تتابع المشهد وتراقبه. بدا الأمر، للوهلة الأولى، مثل مناورة تدريبية، تقوم بها قوات الشرطة في مثل هذا الوقت المتقدم من النهار. لكن، الأمر لم يكن كذلك، ولم تكن المهمة تفريق تظاهرة، أو متابعة مجموعة أشرار، فلدى قوات الشرطة، اليوم، قضية أخرى، تريد إبلاغها للرأي العام وللمسؤولين.
تعب هؤلاء الشرطة من ملاحقة المتسببين في الأحداث الدموية، التي شهدتها مدينة غرداية في الأشهر العشرة الماضية، مما أفاض كأس الشرطة الجزائرية، وجعلها تنتفض غضباً، لشعورها بأن أفرادها أصبحوا وحدهم في فوهة المدفع، بعد تزايد عدد الاحتجاجات الشعبية في طول البلاد وعرضها. طالب المحتجون باسترداد حقوقهم، التي وصفوها بـ "المغتصبة"، وأكدوا عدم وجود أي تعويض لعديدين من أفراد الشرطة الذين توفوا، أو تعرضوا لإصابات وحروق، في أحداث العنف الطائفية، التي تعيشها منطقة وادي ميزاب.
طالبوا، أيضاً، بالحق في زيارة عائلاتهم، بعد أكثر من عشرة أشهر من العمل، وسط الأحداث الدموية، التي عاشتها مدينة غرداية، إضافة الى تحسين أوضاعهم اليومية، وإنشاء نقابة وطنية للشرطة، ورحيل المدير العام للشرطة، اللواء عبد الغني هامل.
تظاهر بضع مئات من أعضاء الشرطة الرسمية الجزائرية، وفي ذاكرتهم جحود النظام الرسمي لأفراد الحرس البلدي، وهي شرطة محلية، تم إنشاؤها في التسعينيات، لمحاربة المسلحين الإسلاميين، وتم الاستغناء عن خدمات أفرادها فيما بعد، تظاهروا وأيديهم على قلوبهم، حتى لا ينطبق عليهم المثل "أكلت يوم أكل الثور الأبيض".
القبضة الحديدية والتسيير الأمني لكل مظاهر الحياة في البلاد، والدفع برجال الشرطة في وجه كل ما يتحرك في البلد، أو يحاول التعبير عن نفسه، أتعب أجساد هؤلاء، وعقولهم أيضاً، وأخرجهم عن واجب التحفظ، الذي تسير فيه المؤسسات الأمنية، بل ودفعهم إلى القيام بما لا يستطيع القيام به المجتمع المدني في الجزائر حالياً، فلو نظمت هذه المسيرة هيئة مدنية ـ لسميت مظاهرة غير مرخص بها، ولتم اعتقال أصحابها، ولفقت لهم تهم كثيرة.
تقول إحصائيات جهازي الشرطة والدرك الوطني إنّ الجزائر سجلت ما مجموعه 207 آلاف جريمة، بمختلف أنواعها في الأشهر التسعة الماضية، وهو ما يعادل نحو 700 جريمة يومياً. وهذه إحصائيات بدأت الأجهزة الأمنية تضيق ذرعاً بها، فتدخلاتها الأمنية لم تعد تجدي نفعاً في غياب شبه تام للمعالجات الأخرى غير الأمنية. هُمّش دور المدرسة، لاعتقاد النظام أنها كانت السبب في صناعة الظاهرة الإسلامية في الجزائر، وتراجع دور المسجد لمهمة تأدية الصلوات الخمس فقط، وغُيب دور الجمعيات الأهلية، لتتطور الجريمة في السنوات الأخيرة، بشكلٍ أصبح يهدّد الأمن العام.
ومع ذلك، تصر الحكومة على الحلول الأمنية وحدها منقذاً من حالة التردي، التي وصلت إليها البلاد، وقد صرح وزير العدل إن الجرائم المتعلقة بالإرهاب تتكفل بها الأجهزة الأمنية، بينما الجرائم الأخرى، التي يعرفها المجتمع، على غرار اللصوصية والتعدي و"حمل السيوف علناً"، التي ارتقت أخيراً إلى "الظاهرة"، فيجب معالجتها في إطار "السياسة الوطنية الجزائية" التي تلعب النيابة العامة والقضاء دوراً أساسياً في "الإشراف والتسيير والسهر على تنفيذها".
غالباً ما تلجأ الأنظمة العربية إلى القبضة الأمنية حلولاً، تعتقد أنها سحرية، في معالجة القضايا المطروحة أمامها. ولكن، عندما يصل الانفلات إلى هذا الحد، فلا بد أن الأمر جلل، ويحتاج إلى معالجة أخرى، غير وصفة القبضة الأمنية. في الجزائر، سُفهت أصوات الأحزاب المعارضة، ولم يعد لكلمتها أي معنى. حوصرت الأفكار، وتوبع أصحابها قضائياً، ودُجنت الصحافة، ومن بقي منها، يحاول الحفاظ على حيز من استقلاليته، حُرم من إعلانات تمنحها المؤسسة العمومية للإشهار لمن يقدم فروض الطاعة للمؤسسة الرسمية فقط، ويسير في فلك النظام، من دون إبداء أي رأي، فلا صوت يعلو على أصحاب القرار في قصر المرادية.