مسيرة الحركة الوطنية المصرية بين الاتصال والانفصال
تمهيد طواه النسيان
ففي مطلع القرن العشرين، وعقب فشل الثورة العرابية، ووقوع البلاد في براثن الاحتلال البريطاني، ظهر الزعيم الوطني، مصطفى كامل باشا، الذي أحيا مسيرة النضال الوطني، وأسهم بشكل كبير، هو وخليفته محمد فريد باشا، في استنهاض هِمم المصريين، لمواجهة الاحتلال البريطاني. وارتكز المشروع الوطني لمصطفى كامل بعد تأسيسه "الحزب الوطني" على أساس "الجامعة الإسلامية"، وعلى تأكيد الارتباط القانوني لمصر بالدولة العثمانية، فقد كان يرى أن التناقض الرئيسي مع الاحتلال البريطاني دون غيره، في إطار يمزج كثيراً بين "المصرية" و"العثمانية"، على حد تعبير عبّاس محمود العقّاد.
مصطفى كامل (1874-1908) |
ثورة 1919.. عُمر قصير وأثر كبير
وكان للمسيرة النضالية لمصطفى كامل أكبر الأثر في تهيئة الأجواء، وتمهيد الطريق أمام اندلاع ثورة 1919، والتي تُعد أفضل الثورات في تاريخ مصر الحديث، فقد قدّمت نموذجاً رائعاً للثورة الشعبية التي جمعت المصريين، على اختلاف عقائدهم وطبقاتهم وفئاتهم وأجيالهم، الذين اجتمعوا خلف مطلبيْن هما: الاستقلال والدستور. وتمخّض عن ثورة 1919 قيادة ثورية وزعامة شعبية حقيقية، ممثّلة في سعد زغلول باشا الذي أنشأ حزب "الوفد"، ليكون، حسب تعبير المؤرّخ الكبير طارق البشري، "تنظيم الحركة الوطنية الديمقراطية المصرية لثورة 1919، الذي استطاع أن يجمع المصريين، ويستوعب نشاطهم وطموحهم الوطني والحضاري، وحققّ بذلك أسمى ما يمكن تحقيقه في إطار ما تتيحه الظروف التاريخية، والذي أسهم بتكوينه الجامع في تكوين الجامعة المصرية".
وهو الحزب السياسي الحقيقي الوحيد في تاريخ مصر الحديث، وأنجح تنظيم سياسي عرفته مصر طوال تاريخها، حيث استطاع أن يتمدد ويتشعّب في طول البلاد وعرضها، بحَضرها وريفها، عبر لجانه الرئيسية والفرعية. وتمثّلت نقطة قوة "الوفد" الرئيسية في أن تأسيسه لم يكن بقرار "فوقي" سلطوي، أو نخبوي منعزل عن الشعب، وإنما كان ظهوره استجابة لرغبة شعبية ووطنية جارفة، كما أنه كان بمثابة "جبهة وطنية"، ضمّت شتّى القوى السياسية والاجتماعية التي شاركت في ثورة 1919، وعكست تشكيل الأمّة المصرية بأسرها، فقد ضمت صفوفه المسلمين والأقباط، وكبار المُلّاك من الباشوات إلى جانب العمال، والحضريين والريفيين، والمثقفين والفلاحين. وحققّت ثورة 1919 نجاحاً جزئياً بصدور دستور 1923، وبالحصول على استقلال شكلي منقوص، بصدور تصريح 28 فبراير/شباط 1922 الذي رفضه سعد زغلول باشا رفضاً قاطعاً.
وفي عام 1924، أُجريت أول انتخابات برلمانية، بعد صدور دستور 1923، والتي اتسمت بقدر كبير من النزاهة، بشهادة مؤرّخين عديدين، وقد اكتسحها الوفد اكتساحاً،. كما شهدت واقعة تاريخية فريدة لم تتكررّ، عندما سقط يحيى إبراهيم باشا الذي كان رئيس الوزراء ووزير الداخلية آنذاك في دائرته الانتخابية أمام مرشّح "الوفد"، في دليل ناطق على مدى نزاهة تلك الانتخابات.
وكانت الفترة من 1924 وحتى قيام الضبّاط الأحرار بانقلابهم في يوليو/تموز 1952 حافلة بالصراع بين "الوفد"، ممثّل الحركة الوطنية المصرية والسلطتيْن، الشرعية ممثّلة في القصر، والفعلية ممثّلة في الاحتلال، فلم يحكم "الوفد"، وكان حزب الأغلبية آنذاك، خلال تلك الفترة سوى سبع سنوات متفرّقات، كما لم يُطبق دستور 1923 في الفترة نفسها سوى عشر سنوات فقط، فكثيراً ما كانت حكومات الأقلية تقوم بتعطيله، بإيعاز من القصر والاحتلال.
وعلى الرغم من قِصر المدّة التي تولى فيها "الوفد" السلطة، إلا أنها كانت حافلة بالإنجازات، وأبرزها: معاهدة 1936 التي حققت استقلالاً مبدئياً لمصر، وأخرجت قوات الإنجليز إلى قناة السويس، وحققت الاستقلال للجيش المصري، وإلغاء الامتيازات الأجنبية لـ12 دولة، وهو قرار استعاد سيادة مصر. كما أطلق مصطفى النحّاس باشا وحكومة الوفد، شرارة الكفاح المُسلح ضد الاستعمار البريطاني، بعد إلغائه معاهدة 36 في عام 1951، وبدء معارك الفدائيين ضد الاحتلال في القناة. فضلاً عن ذلك، يُحسب لحكومات الوفد تأسيس جامعة الدول العربية، وتوقيع معاهدة للدفاع المشترك بين الدول العربية، وإنشاء ديوان المحاسبات "الجهاز المركزي للمحاسبات"، ومحكمة النقض، والبنك المركزي، واتحاد العمال. فضلاً عن إصدار عشرات التشريعات المنظمة للحقوق في مصر، مثل قانون العمال، ومجانية التعليم الذي تمّ على مرحلتيْن: الأولى كانت للتعليم الابتدائي في حكومة النحّاس في 1942، والثانية في حكومة النحّاس الأخيرة في 1950، لتمتد إلى التعليمين: الثانوي والفني، بالإضافة إلى قوانين التأمين الإجباري على العامل، واستقلال القضاء والتعريب.
وعلى الرغم من القصر النسبي للحقبة شبه الليبرالية عقب ثورة 1919، واستمرت حتى يوليو 1952، إلا أنها كانت حقبة شديدة الثراء على المستويات: السياسي والفكري والثقافي، حيث اتسمت بقدر كبير من الحرية، نتج عنه انفتاح المجال العام أمام فاعلين عديدين، وامتلاك المجتمع بشكل نسبي زمام المبادرة وحرية الحركة، حيث كان المجال مفتوحاً لتأسيس الأحزاب، والجمعيات الأهلية، والتنظيمات النقابية، كما كان مفتوحاً، أيضاً، أمام حراك وتفاعل مختلف المشارب والمذاهب الفكرية والسياسية. وهو ما تؤكده ضراوة المعارك السياسية والفكرية التي اتخذت طابعاً سجالياً بين أطرافها، وقد كانت ساحاتها صفحات الصحف المختلفة المعبّرة عن مختلف الأحزاب السياسية والتوجهات الفكرية، حيث كان سمتها الرئيسي هو لغة الخطاب البالغة الرقي، حتى في أعتى لحظات النقد والهجوم.
وقد انعكس هذا على الإنتاجين: الأدبي والفني، للحقبة شبه الليبرالية إبّان العهد الملكي، فقد كانت ثورة 1919 بمثابة مخاض كبير لجيل رائع من المُبدعين من الأدباء والكُتّاب والشعراء. وقد أغنى هذا الجيل المكتبة العربية بإنتاجه الرفيع فكرياً وأدبياً. ويُعد التراث الأدبي والفني لتلك الفترة القاعدة الأساسية لـ"القوّة الناعمة" المصرية في محيطيها العربي والإقليمي، والتي مازالت آثارها ممتدة. كما انعكس أيضاً على السمت المعماري البديع الذي اتسمت به طرز المباني التي شُيدت في تلك الفترة. ومعلوم أن الإنتاج الأدبي والفني والمعماري لحقبة بعينها مرآة عاكسة لحالة المجتمع، ودرجة حيويته السياسية والفكرية والثقافية، وما يتمتع به من ذائقة جمالية. وتكمن نقاط ضعف ثورة 1919 العظيمة في أنها قصرت مفهوم الاستقلال على المستوييْن: السياسي والاقتصادي، من دون الاستقلال الثقافي والحضاري، فقد كان تصوّرها للنهضة والاستقلال أسيراً للمفهوم الغربي لهما، ويدور في إطار تحقيق السيادة الوطنية، واستعادة الأمّة مقدّراتها، عبر شعار "مصر للمصريين". ولم يتسع تصورّها ليشمل النواحي الفكرية والثقافية والحضارية، فلم تتخذ موقفاً حاسماً تجاه قضية التغريب والهوية الحضارية. وهو أمر جاء حصاده في عقود لاحقة، بنشوء استقطاب حاد بين فريقيْن متطرفيْن، ذهب الأول إلى تأكيد "الذات الحضارية"، بشكل مبالغ فيه، في أحيان كثيرة، عبر الدعوة إلى الوصل التام بين الدين وتفاصيل الممارسة السياسية، بعدما ترّسخ في عقله الجمعي أن الحرية تعني حرية مهاجمة الثوابت الدينية والتحللّ من القيم الأخلاقية. وذهب الثاني في الاتجاه المضاد الخاطئ، عبر الدعوة إلى الفصل التام بين الدين وتفاصيل الممارسة السياسية، حيث رأى أن حضور الدين في المجال العام يعني القمع، والنيْل من الحريّات الشخصية.
كما أن ثورة 1919 ضيّقت من "دائرة الانتماء" لتقتصر على "الجامعة المصرية" ووحدة وادي النيل (مصر والسودان) من دون أن تتسع إلى دوائر الانتماء الأوسع، لتشمل الدائرة العربية والدائرة الإسلامية. هذا بالإضافة إلى إغفال ثورة 1919 لمعالجة الأزمة الاجتماعية، وعدم اتخاذها إجراءات حاسمة، من أجل تفكيك بنية النظام الاجتماعي الطبقي، وقصرها مفهوم تمثيل الأمّة سياسياً على طبقة بعينها من كبار المُلاّك.
تبقى الإشارة إلى الموقف الغريب الذي اتخذته ثورة 1919 وقيادتها تجاه الفترة النضالية التي سبقتها، والتي حمل لواءها "الحزب الوطني" القديم، وزعيمه مصطفى كامل باشا، حيث اتسم موقفها، في أحسن أحواله، بالتجاهل والإنكار، وكأنه لم يكن لمن سبقها أي فضل في تمهيد الطريق أمامها، ربما كان هذا لمشروعها الذي قام على أساس "الجامعة المصرية" الذي يختلف عن مشروع مصطفى كامل "الجامعة الإسلامية". ولكن، على كل حال، كان موقف ثورة 1919 تجاه الفترة التي سبقتها، وتجاه مصطفى كامل، مؤسفاً وليس له ما يبرّره.
يوليو 1952... سلطوية بمطرقة الدولة
انتهت الحقبة شبه الليبرالية، بمجيء انقلاب "الضباط الأحرار" في 23 يوليو 1952، والذي حمل في بدايته لقب "حركة الجيش"، ثم تغيّر إلى "الحركة المباركة"، ثم حمل لقب "ثورة" 23 يوليو، بعد التأييد الشعبي له. ولقد تعامل نظام يوليو 1952 مع الوضع الذي كان قبله، عبر سياسة "الهدم الشامل"، فلم يحاول البناء على ما كان فيه من نقاط إيجابية، بعد القضاء على النقاط السلبية، وإنما قرّر إهالة التراب على الحقبة التي سبقته، والتخلّص منها كلياً، بكل ما فيها من إيجابيات وسلبيات. ففي الفترة السابقة لانقلاب "الضباط الأحرار"، كان المجتمع المصري خصباً نشطاً يموج بالحركة والحيوية، إلا أن نظام يوليو عَمَد إلى ترويضه وتجريفه وتكبيله، عبر سياساتٍ استهدفت فرض الوصاية عليه متمثلة في عدّة خطوات، كان عنوانها الرئيسي مصادرة المجال العام، و"تأميمه" سياسياً واقتصادياً واجتماعياً. فكان الإجهاز الكامل على التجربة الحزبية، عبر قرار إلغاء الأحزاب السياسية في يناير/كانون الثاني 1953، وقيام نظام الحزب الواحد الذي جاء برغبة سلطوية فوقية، وليست شعبية، كما كان الأمر مع "الوفد" في ثورة 1919، ليكون الحزب الواحد "حزب الدولة"، أو "التنظيم الشمولي" الأوحد، الذي احتكر الحياة السياسية، بادعاء تمثيل فئات المجتمع كافة، وجمعها في كيان واحد يمثل الأمة. والمأساة أن ذلك الكيان "الشمولي" الذي كان مظلّة لانتهازيين عديدين هتفوا بشعارات كل العهود، فكانوا رجال كل العصور، احتكر السلطة أكثر من 60 عاماً، بعدما تغيّرت مسمياته من "هيئة التحرير" إلى "الاتحاد القومي"، ثم "الاتحاد الاشتراكي" فـ"حزب مصر"، ثم "الحزب الوطني الديمقراطي" المقبور.
وكانت تلك الخطوة الكارثية بمثابة حكم بالإعدام على التجربة الحزبية القائمة على التعددية، وعلى نخبة سياسية ثرية، وبموجبها وقعت الحياة السياسية المصرية في أسر "ثنائية مغلقة"، لم تخرج منها حتى الآن، هي (دولة يوليو 1952- تنظيم الإخوان المسلمين). كما أدت خطوات أخرى مماثلة، تجاه الجمعيات الأهلية، والحركة الطلابية، إلى تجفيف تربة المجتمع وتعقيمها، بشكل بالغ القسوة، أصابته لاحقاً بالشلل والإخصاء، وفقدان القدرة على المبادرة والحركة، فصار مجتمعاً قعيداً كسيحاً، بعدما كان مجتمعاً يتوهّج نشاطاً وحركة، ولم نكتشف أبعاد تلك المأساة إلا بعد مرور عقودٍ طويلة، في أعقاب ثورة 25 يناير 2011.
لا شكّ أن نظام يوليو 1952 قدّم مشروعاً للتحرّر الوطني في الخارج، ولتحقيق العدالة الاجتماعية في الداخل، إلا أنه وقع في خطأ فادح، عندما استبدل العدالة الاجتماعية بالحرية، كما جاء تحقيقه العدالة الاجتماعية، برغبة سلطوية، وبنزعة "أبوية" وصائية من الدولة تجاه المجتمع، أدت إلى قيام دولة استبدادية بوليسية، جرّفت المجتمع، وأفقدته قدرته على التفاعل، وقتلت فيه روح الابتكار.
أجهز نظام يوليو 1952 على ما أنجزه المصريون بنضالهم طوال قرن ونصف، عندما سلبهم الحرية وروح الابتكار والمبادرة، وصادر حقهم في بناء مجتمع مدني قوي، عبر حرية تأسيس الأحزاب، وتكوين نقابات مهنية مستقلة، بعدما جثمت الدولة على أنفاس المجتمع، وهيمنت على كل حركاته وسكناته، عبر التنظيم الشمولي الأوحد والأجهزة الأمنية.
وليس غريباً أن تذهب كل منجزات نظام يوليو 1952 الاجتماعية أدراج الرياح، بعد وفاة الرئيس جمال عبد الناصر، لأنها كانت مرتبطة، في الأساس، بالإرادة الشخصية للحاكم الفرد، ومفروضة بعصا الدولة المُسلطة على حرية المجتمع، من دون مشاركة شعبية حقيقية، تحميها وتدافع عنها، وبنهاية الحقبة الناصرية، كانت الخسارة مزدوجة وفادحة من وجهيْن: فلا كان الحفاظ على ما تحقق من عدالة اجتماعية، ولا كان الاحتفاظ بما كان من مساحات الحرية.
ولا يمكن، هنا، أن نغفل الطريقة القاسية التي تعامل بها نظام يوليو 1952، مع الزعيم الوطني، مصطفى النحّاس باشا، الذي قاد مسيرة الحركة الوطنية نحو ربع قرن، وهي طريقة غلب عليها طابع الإهانة، والانتقام، والتنكيل برجل وطني كبير، وكأنه كان عدواً للشعب وللوطن، وكأنه لم يكن على رأس الحركة النضالية لهذا الشعب الذي اختاره أكثر من عِقديْن زعيماً له، وممثّلاً لآماله، ومعبراً عن طموحاته في مواجهة الاستعمار. فقد وضع نظام يوليو 1952 النحّاس تحت الإقامة الجبرية سنوات طويلة، كان محظوراً في أثنائها مجرّد ذِكر اسمه، في أي صحيفة أو إذاعة أو محفل عام، وهي إهانة سياسية وخطيئة أخلاقية بحق زعيم سياسي عظيم، ذي تاريخ وطني حافل وطويل في خدمة القضية الوطنية.
حركة "قطع طريق".. ذاتية متكررّة
مجمل القول إن مسيرة الحركة الوطنية المصرية لا تسير في خط مستقيم، ولا تنتظم في سلسلة متصلة الحلقات، بحيث تستكمل اللاحقة طريق السابقة، وإنما تبدو وكأنها تمضي في مسار متعرّج، مليء بالمنحنيات والمنعطفات، أو في حلقات منفصلة غير متصلة، كما لو كانت تعاني من حركة "قطع طريق" ذاتية متكرّرة. فبدلاً من أن تأتي الحقبة اللاحقة، لتستكمل طريق السابقة، فإذا بها تنحرف عن مسارها نحو اتجاه مغاير، خلاف الاتجاه الذي سلكته الأولى، ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، فالأدهى أنها تهدم ما بنته الأولى وشيدته سياسياً وفكرياً واجتماعياً، فقد قدّم مصطفى كامل مشروعاً وطنياً يحمل سمات محددة، فجاء سعد زغلول بمشروع وطني، يتضمن سمات أخرى "قطع الطريق" على مشروع مصطفى كامل، ثمّ جاء جمال عبد الناصر بمشروع وطني آخر "قطع الطريق" على مشروعيهما، وهدم ما بنياه.
25 يناير بين القديم والجديد
وكانت ثورة 25 يناير 2011 فرصة مثالية، من أجل بلورة مشروع وطني جديد، يطوي صفحة الماضي وما فيها من أخطاء، ويبدأ حقبة جديدة في صفحة جديدة من تاريخ مصر، إلا أن الفراغ القيادي الناتج عن عملية التجريف والإخصاء القاسية التي تعرّضت لها مصر عقوداً طويلة، وفشل 25 يناير في تصدير قيادة، تتحدّث باسمها وتحمل لواءها وتجمع الناس حولها، بالإضافة إلى السقوط المبكّر في فخ الاستقطاب السياسي الحاد الذي استدعى كل موروثات "الثأر الأيديولوجي" بين تيارات الجماعة الوطنية المصرية، والذي أذكى نيرانه تصدّر المتطرّفين و"المُؤَدلَجين" من كل التيارات الفكرية. وأدت محصلة تلك العوامل كلها، من جهة، إلى عودة النخبة السياسية القديمة المُفلسة مجدداً إلى صدارة المشهد، بكل آفاتها وأمراضها المزمنة، وهي التي طالما ألفت الشقاق وخاصمت الوفاق، وكانت جزءاً أساسياً من المشكلة طوال العقود الثلاثة الماضية، وبالتالي، لن تكون جزءاً من الحل.
أوقع هذا الأمر المصريين، مرّة أخرى، في أسر تلك الثنائية المغلقة القديمة، الجاثمة على المشهد السياسي منذ نحو ستة عقود (دولة يوليو 1952- تنظيم الإخوان المسلمين)، والتي مازالت فصول الصراع بين طرفيْها تتوالى في معركة طويلة وممتدة، تقوم الدولة القديمة، في فصلها "الصفري" الجاري، بحملة ممنهجة عاتية، وصلت إلى حد "الهيستريا" أمنياً وإعلامياً، تهدف إلى استئصال الجماعة سياسياً واجتماعياً، بينما تصرّ الثانية على المقاومة عبر استنزاف الأولى، مستخدمة خطاب "المحنة" القديم، وبالطريقة نفسها التي تخرج عن إطار السلمية، تدريجياً، وتنزلق نحو ممارسة العنف، ما يمنح الدولة القديمة غطاءً سياسياً للقمع والبطش الذي، بدوره، يغذي خطاب "المظلومية" وممارسات الجماعة الاحتجاجية، في متتالية صراعية بغيضة، باتت عقبة كأداء أمام مستقبل الوطن.
ولن تنكسر تلك الثنائية الصراعية إلا بظهور بديل جديد على يد جيل جديد، خلاف النخبة السياسية القديمة البالية التي أشهرت إفلاسها الكامل فكرياً وسياسياً وأخلاقياً، يطرح رؤية توافقية، ويسعى إلى تجاوز الانقسامات الأيديولوجية والاستقطابات السياسية، ويفرض نفسه على الساحة، عبر بناء كتلة وطنية، تتوحّد خلف مبادئ الحرية والتعددية والديمقراطية، وتعمل على الانتشار في قواعد تنظيمية شعبية، تنطلق نحو تحقيق أهداف ثورة 25 يناير التي قامت من أجلها. وقد كانت هذه الثورة لحظة كاشفة، أظهرت مدى اتساع الفجوة بين التكوينات التنظيمية والأنساق الفكرية القديمة وبين متطلبات لحظة التغيير الجديدة. وكشفت عن مدى الجمود والتيبّس والعجز، الذي أصاب الهياكل القديمة، وحال بينها وبين استيعاب الحركة الاجتماعية الجديدة، فضلاً عن قدرتها على تمثيلها، وهو ما يستلزم ظهور كيانات جديدة وتكوينات بديلة، تكون قادرة على تمثيل الحركة الجديدة، والتعبير عنها.
ربما يستغرق هذا بعض الوقت، ريثما التخلّص من كل الركام السياسي والحطام الاجتماعي الذي خلّفته العقود العجاف الماضية، لكنه لن يتأخّر كثيراً، فالمشهد القديم صار في ذمّة التاريخ، والجديد قادم في الطريق.