09 نوفمبر 2024
ياسر عرفات.. الأول والأخير
بشير البكر
بشير البكر كاتب وشاعر سوري من أسرة "العربي الجديد" ورئيس تحرير سابق
تمر، هذه الأيام، الذكرى العاشرة لرحيل الرئيس الفلسطيني، ياسر عرفات، في باريس. غفا أبو عمار، في ذلك الخريف، إغفاءة طائر العنقاء الأخيرة، وكنا نعرف أنه لن يقوم، هذه المرة، من رماده، فهو، في مرات كثيرة سابقة، غلب الموت، وعاد حياً إلى معجزته، ليقهر النسيان والصمت، لكنه، في المرة الأخيرة، كان قد وصل إلى حافة الأسطورة، مثل بطل إغريقي استكمل الرحلة.
حين ذهبنا لوداع جثمانه في مطار فيللا غوبليه العسكري قرب باريس، شاهدت أشخاصاً لم يسبق لي أن عرفت تعاطفهم مع الرجل، بل كان بعضهم يرميه بشتى التهم، وينزع عنه صفة الوطنية. هل كانوا ينتظرون موته، هل أدركوا، في حينه، أنهم يودعون جزءاً حياً من ماضيهم، لن يعود إليهم أبداً؟ لا أدري. قد يكون الأمر على هذا النحو، أو هو على نحو آخر. ربما أراد بعضهم أن يتأكد أن الأسطورة انطوت، وعليه أن يفتش عن مكانٍ في حلم آخر.
ميزة عرفات الأساسية أنه استطاع أن يعيد تشكيل الحلم الفلسطيني، ويحوله إلى قضية، ويحميه بصدره وكوفيته أربعين عاماً، ويجعل كل أطفال المخيمات الفلسطينية يلهجون بالعودة.
كل الذين اقتربوا من عرفات ظلوا مسحورين بإيقاعه الذي لا يعرف الكلل. رجل يمتلك طاقة لا مثيل لها على البقاء، هزم كل محاولات شطبه من المعادلة، وبقي يتجدد حتى اللحظة الأخيرة. حتى وهو يعيش ساعات النزع الأخير، كان يثير الكون السياسي من حوله، ليس فقط لأنه يمسك بمفاتيح القضية، بل لأنه، أيضاً، من صنف الرجال الذين يعرفون كيف يحاورون التاريخ، من مكان مرتفع، وبلغة عالية النبرة. فضيلته الأساسية أنه لم يأت إلى القيادة بالوراثة، أو على ظهر دبابة، أو عبر تصفية رفاقه، بل خرج من معسكرات الفدائيين، وهو يحمل حلماً وحيداً، رؤية مآذن القدس. وعاش، مثل كل أصحاب الرسالات، زاهداً متقشفاً، ولم يفسده الجاه أو المال. ظل صافياً كالنبع، ولم تكدره سيول الكلام العكر التي كانت تنصب عليه من جميع الجهات. لم تكن غرفة نومه من بيروت إلى تونس ورام الله أفضل من غرفة نوم أحد من مرافقيه، ولم يكن طعامه يختلف عن زاد الرهبان والرعاة والقديسين.
كان أبو عمار يرى أبعد من محيطه، لذا ذهب نحو ماوتسي تونغ وأنديرا غاندي وتيتو وعبد الناصر وبومدين وكمال جنبلاط. ورحلت فلسطين معه إلى آفاق العالمية، بفضل تضحيات شعبها.
حين رحل أبو عمار لم يبق من الرجال الكبار الذين عاصرهم أحد، كان آخر الراحلين في سلالة العمالقة التي هزت القرن، ومن بعده، هبط السقف مباشرة. من بعده، لم يكن هناك أحد. حاول كثيرون تزعم المسيرة الفلسطينية، لكن الفارق واضح بين الجبل الشامخ الذي لم تهزه الريح والتلال المنخفضة. لم تتدن نوعية الأفراد فقط، بل انخفض منسوب الخطاب السياسي، ونزل سقف الحلم، وانحدرت مرجعية الوطنية الفلسطينية إلى حد لم يكن أحد يتوقع الوصول إليه.
لم يتغير الشعب الفلسطيني، لكن نوعية الذين ارتقوا إلى سدة المسؤولية والزعامة هي التي تشكو من العيوب. وأخطر هذه العيوب أن هناك من لا يدرك أن عرفات ذهب إلى أقاصي الوطن العربي، وعاش أياماً صعبه في المنافي، لكي لا يسلم الورقة الفلسطينية لحاكم عربي أو أجنبي. صارع حافظ أسد ثلاثين سنة من أجل هذه النقطة، واختلف بسببها مع العراق ومصر وليبيا والأردن. اختار الموت على أن ينطوي تحت جناح حاكم، حتى لو كان هذا الحاكم عبد الناصر الذي كانت تهتف له الجماهير من المحيط إلى الخليج.
حين ذهبنا لوداع جثمانه في مطار فيللا غوبليه العسكري قرب باريس، شاهدت أشخاصاً لم يسبق لي أن عرفت تعاطفهم مع الرجل، بل كان بعضهم يرميه بشتى التهم، وينزع عنه صفة الوطنية. هل كانوا ينتظرون موته، هل أدركوا، في حينه، أنهم يودعون جزءاً حياً من ماضيهم، لن يعود إليهم أبداً؟ لا أدري. قد يكون الأمر على هذا النحو، أو هو على نحو آخر. ربما أراد بعضهم أن يتأكد أن الأسطورة انطوت، وعليه أن يفتش عن مكانٍ في حلم آخر.
ميزة عرفات الأساسية أنه استطاع أن يعيد تشكيل الحلم الفلسطيني، ويحوله إلى قضية، ويحميه بصدره وكوفيته أربعين عاماً، ويجعل كل أطفال المخيمات الفلسطينية يلهجون بالعودة.
كل الذين اقتربوا من عرفات ظلوا مسحورين بإيقاعه الذي لا يعرف الكلل. رجل يمتلك طاقة لا مثيل لها على البقاء، هزم كل محاولات شطبه من المعادلة، وبقي يتجدد حتى اللحظة الأخيرة. حتى وهو يعيش ساعات النزع الأخير، كان يثير الكون السياسي من حوله، ليس فقط لأنه يمسك بمفاتيح القضية، بل لأنه، أيضاً، من صنف الرجال الذين يعرفون كيف يحاورون التاريخ، من مكان مرتفع، وبلغة عالية النبرة. فضيلته الأساسية أنه لم يأت إلى القيادة بالوراثة، أو على ظهر دبابة، أو عبر تصفية رفاقه، بل خرج من معسكرات الفدائيين، وهو يحمل حلماً وحيداً، رؤية مآذن القدس. وعاش، مثل كل أصحاب الرسالات، زاهداً متقشفاً، ولم يفسده الجاه أو المال. ظل صافياً كالنبع، ولم تكدره سيول الكلام العكر التي كانت تنصب عليه من جميع الجهات. لم تكن غرفة نومه من بيروت إلى تونس ورام الله أفضل من غرفة نوم أحد من مرافقيه، ولم يكن طعامه يختلف عن زاد الرهبان والرعاة والقديسين.
كان أبو عمار يرى أبعد من محيطه، لذا ذهب نحو ماوتسي تونغ وأنديرا غاندي وتيتو وعبد الناصر وبومدين وكمال جنبلاط. ورحلت فلسطين معه إلى آفاق العالمية، بفضل تضحيات شعبها.
حين رحل أبو عمار لم يبق من الرجال الكبار الذين عاصرهم أحد، كان آخر الراحلين في سلالة العمالقة التي هزت القرن، ومن بعده، هبط السقف مباشرة. من بعده، لم يكن هناك أحد. حاول كثيرون تزعم المسيرة الفلسطينية، لكن الفارق واضح بين الجبل الشامخ الذي لم تهزه الريح والتلال المنخفضة. لم تتدن نوعية الأفراد فقط، بل انخفض منسوب الخطاب السياسي، ونزل سقف الحلم، وانحدرت مرجعية الوطنية الفلسطينية إلى حد لم يكن أحد يتوقع الوصول إليه.
لم يتغير الشعب الفلسطيني، لكن نوعية الذين ارتقوا إلى سدة المسؤولية والزعامة هي التي تشكو من العيوب. وأخطر هذه العيوب أن هناك من لا يدرك أن عرفات ذهب إلى أقاصي الوطن العربي، وعاش أياماً صعبه في المنافي، لكي لا يسلم الورقة الفلسطينية لحاكم عربي أو أجنبي. صارع حافظ أسد ثلاثين سنة من أجل هذه النقطة، واختلف بسببها مع العراق ومصر وليبيا والأردن. اختار الموت على أن ينطوي تحت جناح حاكم، حتى لو كان هذا الحاكم عبد الناصر الذي كانت تهتف له الجماهير من المحيط إلى الخليج.
دلالات
بشير البكر
بشير البكر كاتب وشاعر سوري من أسرة "العربي الجديد" ورئيس تحرير سابق
بشير البكر
مقالات أخرى
02 نوفمبر 2024
26 أكتوبر 2024
19 أكتوبر 2024