02 نوفمبر 2024
المسيحيون العرب وتناقصهم الكارثة
عشية الفتح العثماني لبلاد الشام ومصر والعراق، في سنتي 1516 – 1517 كان عدد المسيحيين في هذه الديار نحو 16 مليوناً: العراق (9 ملايين)، الشام (4 ملايين)، مصر (مليونان ونصف المليون). أما في إحصاءات سنة 2010، وهي إحصاءات تقريبية في أي حال، فإن عدد المسيحيين في هذه الديار لم يتجاوز 17 مليوناً: لبنان (1,3مليون)، سورية (مليونان)، العراق (مليون)، مصر (12 مليوناً)، فلسطين والأردن (360 ألفاً).
لو خضعت هذه البلاد للتزايد السكاني الطبيعي، لكان عدد المسيحيين اليوم نحو 200 مليون. وهذا المنحنى البياني الهابط يحتاج إلى تفسير علمي، لتعليل اتجاهه نحو الأسفل. ومؤكد أن عوامل عدة ساهمت في تناقص أعداد المسيحيين في البلاد العربية، في الأربعمئة سنة الأخيرة، وقبلها أيضاً، منها تحول مسيحيين كثيرين إلى الإسلام، بتأثير التفاعل الفكري والعقيدي، أو الاضطهاد أو الهجرة. مع ذلك، فإن المشكلة ليست هنا؛ فالتحول إلى الإسلام أمر طبيعي. المشكلة أن تناقص أعداد المسيحيين في البلاد العربية الذي تفاقم منذ نحو 150 سنة، ويتخذ الآن شكل الكارثة، يهدد بخلخلة التاريخ الحضاري والثقافي لبلادنا، لأنه يجري جراء العنف والاضطهاد والإرغام.
البدايات
لو خضعت هذه البلاد للتزايد السكاني الطبيعي، لكان عدد المسيحيين اليوم نحو 200 مليون. وهذا المنحنى البياني الهابط يحتاج إلى تفسير علمي، لتعليل اتجاهه نحو الأسفل. ومؤكد أن عوامل عدة ساهمت في تناقص أعداد المسيحيين في البلاد العربية، في الأربعمئة سنة الأخيرة، وقبلها أيضاً، منها تحول مسيحيين كثيرين إلى الإسلام، بتأثير التفاعل الفكري والعقيدي، أو الاضطهاد أو الهجرة. مع ذلك، فإن المشكلة ليست هنا؛ فالتحول إلى الإسلام أمر طبيعي. المشكلة أن تناقص أعداد المسيحيين في البلاد العربية الذي تفاقم منذ نحو 150 سنة، ويتخذ الآن شكل الكارثة، يهدد بخلخلة التاريخ الحضاري والثقافي لبلادنا، لأنه يجري جراء العنف والاضطهاد والإرغام.
البدايات
لنتذكر أن مسيحيي سورية وفلسطين ولبنان والأردن وكيليكيا والإسكندرون (بلاد الشام) ومسيحيي العراق ومصر هم جميع مسيحيي العالم القديم تقريباً، وهم الذين صاغوا العقيدة المسيحية، ولا سيما في أنطاكيا وحلب ودمشق والرها ونصيبين. وكان هؤلاء ينتشرون بكثرة ساحقة في الجزيرة الفراتية، أي في ديار ربيعة (تكريت وسامراء والأنبار وسنجار والموصل)، وفي ديار مضر (الرها والرقة ورأس العين وحران)، وفي ديار بكر (ميافارقين وآمد التي تسمى جزيرة ابن عمر)، وكانت هذه الديار كلها جزءاً من سورية التاريخية. وقد بدأ نزوح الأشوريين من سهول ما بين النهرين إلى جبال تياري وهكاري منذ سنة 1789، جراء النكبات التي أوقعها بهم عبد الكريم نادر شاه التركي.
وفي النصف الأول من القرن التاسع عشر، راحت جماعات كردية، بقيادة أميرها بدرخان، تشن هجمات متتالية على المسيحيين والإيزيديين، وتمكن هؤلاء من إبادة آلاف السريان النساطرة والإيزيديين في إقليمي هكاري وطور عبدين. وتعرضت مناطق المسيحيين في تلك الديار إلى انزياح قبائل تركية وكردية إليها، وتحالف العثمانيون مع الأكراد، في تلك الفترة، ضد الفرس، فارتفعت مكانة القبائل الكردية لدى الأتراك الذين منحوهم في سنة 1842 إمارة كردية في قلب الجزيرة السورية السريانية، هي إمارة بوتان.
وفي النصف الأول من القرن التاسع عشر، راحت جماعات كردية، بقيادة أميرها بدرخان، تشن هجمات متتالية على المسيحيين والإيزيديين، وتمكن هؤلاء من إبادة آلاف السريان النساطرة والإيزيديين في إقليمي هكاري وطور عبدين. وتعرضت مناطق المسيحيين في تلك الديار إلى انزياح قبائل تركية وكردية إليها، وتحالف العثمانيون مع الأكراد، في تلك الفترة، ضد الفرس، فارتفعت مكانة القبائل الكردية لدى الأتراك الذين منحوهم في سنة 1842 إمارة كردية في قلب الجزيرة السورية السريانية، هي إمارة بوتان.
إن أول معركة ضد الأشوريين نفذها الأكراد في سنة 1839. ثم تكررت مرات عدة بين الأعوام 1843 و1846، حين قام البدرخانيون بالفتك بالأشوريين في جبال هكاري. وفي 1895، وقعت مذابح ضد المسيحيين في ديار بكر وميافارقين والرها (أورفة) وماردين ونصيبين وطور عبدين وويران شهر، واستؤصل الآشوريون من تلك البلاد بما في ذلك آمد (جزيرة ابن عمر) وسعرت وهكاري (في تركيا اليوم) وأورميا (في إيران اليوم). ففي ماردين وجوارها، كان هناك نحو 200 ألف سرياني في أوائل القرن العشرين، لم يبقَ منهم، في أوائل القرن الحادي والعشرين، إلا نحو ثلاثة آلاف.
وفي طور عبدين وحدها، كان هناك 700 راهب، لم يبق منهم اليوم إلا اثنان. وماردين نفسها مدينة سريانية، استولت عليها تركيا، وسلمتها إلى الأكراد، وطردت منها سكانها السريان الذين نزحوا إلى سورية، وأقاموا في بلدة عامودا. واشتهرت آنذاك مذبحة آمد، حين اجتاح الأكراد الجزيرة في 1/7/1915 في هجمات متمادية، استمرت حتى 28/8/1915، فتمكن المهاجمون من سوق جميع سكان البلدة (1250 عائلة) إلى منطقة قرب عين ديوار، تدعى جيم سوس، وقتلوهم جميعاً. وعلى هذا الغرار، وقعت مجزرة ديار بكر في إبريل/نيسان 1915، ومذبحة ويران شهر (تل موزل) في يونيو/ حزيران 1915، ومذبحة سعرت في أغسطس/آب 1915، ومذبحة رأس العين في مارس/ آذار 1916، علاوة على إبادة أرمن تركيا في المذبحة المشهورة التي وقعت في 24/4/1915. ثم قُتل غيلة في 3/3/1918 البطريرك مار بنيامين شمعون على أيدي عصابة سمكو الكردي في بلدة كوينا شهر (في إيران اليوم).
وفي تلك الفترة أيضاً، قتل الأتراك والأكراد نحو 14 ألف أشوري في أورميا، بعدما كان الاضطراب قد دب في روسيا جراء اندلاع ثورة أكتوبر/تشرين أول 1917. ثم قُتل نحو أحد عشر ألفاً في أثناء تهجير الأشوريين من أورميا إلى خانقين في العراق. وقُدِّر عدد الأشوريين الذين ماتوا في المجازر وفي الملاريا بنحو 85 ألف أشوري. ولاحقاً، مارس الكماليون، بعد انتصارهم على اليونان، في سنة 1921، سياسة التطهير العرقي والديني، فقاموا في سنة 1922 بتهجير مليون تركي أرثوذكسي إلى اليونان، وقوّضوا مشروع الدولة الأرمنية في بلاد الأرمن التاريخية.
وبعد قيام الجمهورية التركية في 29/10/1923، خفضوا عدد المسيحيين فيها إلى 5% فقط من عدد السكان، وتخلصوا من أربعة ملايين مسيحي، وبقي فيها نحو نصف مليون فقط. ولم تكد سنة 1939 تطل حتى تناقص عدد المسيحيين، مجدداً، إلى حدود صفرية تقريباً؛ فبعدما كان عددهم في أواخر القرن التاسع عشر قرابة خمسة ملايين، لم يبقَ منهم في أواخر القرن العشرين إلا نحو 150 ألف شخص فقط.
إفناء عناصر التحضر
ثمة كارثة حضارية وإنسانية وثقافية وسياسية تحوم حقاً في سماء البلدان العربية؛ فالمصير الذي انتهى إليه صابئة العراق والكلدان والأشوريون من شأنه أن يفاقم ظاهرة الاندثار والانحلال للأقوام الحضارية الكبرى في العراق وسورية ومصر وفلسطين، بعد أن خلت من سجلات التمدن في المشرق العربي مدن عظيمة، كالرها ونصيبين وحران وأنطاكيا وماردين وغيرها. وثمة تخوف من أن تصبح فلسطين، خلال أربعة عقود تقريباً، بلا مسيحيين إلا من بقايا الرهبان والنُسّاك. وفي العراق، يكاد المسيحيون أن ينقرضوا بعدما هاجر نحو 600 ألف مسيحي بين 2003 و2013. وفي سورية، بلد المسيحية الأولى والكنائس الأولى والرهبانيات الأولى، والمكان الذي "نزلت" البشارة فيه على بولس، تتفاقم هجرة المسيحيين بشكل مأسوي، فيتم تدمير أحيائهم وتهديم كنائسهم وأديرتهم ومدنهم التاريخية، مثل معلولا وبراد، وقتل كهنتهم واختطاف أساقفتهم وفرض الحجاب على نسائهم، والجزية على رجالهم، الأمر الذي يجعل الفرار من هذا الجحيم مخرجاً إجبارياً.
إن تهجير المسيحيين من بلاد المسيحيين إفناء لعناصر التحضر والتنوع في المشرق العربي، وسير حثيث نحو التصحر البشري والاجتماعي والفكري والديني، وخضوع لقانون الانقراض الذي طال الصابئة، وها هو اليوم يجتاح السريان والأشوريين والكلدان بقوة الجماعات الذئبية التكفيرية المروِّعة. وقد استفادت إسرائيل من الاضطهاد الذي يتعرض له المسيحيون في العراق وسورية ومصر، لترويج مشروعها لتجنيد المسيحيين في الجيش الإسرائيلي، مثلما استفادت من الاضطهاد الذي تعرض له الدروز في سورية، في عهد أديب الشيشكلي، لفرض قانون الخدمة العسكرية عليهم في سنة 1955، وهي فرصة نادرة اليوم للقول إن إسرائيل هي المكان الوحيد الذي يعيش فيه المسيحيون بأمان واطمئنان.
المسيحيون والنهضة العربية
لنتذكر أيضاً أن النهضة العربية التي انطلقت غداة احتلال نابليون مصر في سنة 1798 قامت على أيدي المسيحيين بالدرجة الأولى. وكان للمسيحيين فضيلة السبق في ميدان الثقافة والصحافة، فأسسوا صحفاً كثيرة، ومجلات وأحزاباً وجامعات صارت منائر للعلم والتنوير. فأول صحيفة عربية كانت "مرآة الأحوال" التي أصدرها رزق الله حسون الحلبي في اسطنبول في سنة 1855.
ومن بين أهم المجلات والصحف التي صدرت في القرنين التاسع عشر والعشرين على أيدي مسيحيين، يمكن أن نذكر "الهلال" (جورجي زيدان)، و "المقطم" (فارس نمر ويعقوب صروف) "المشرق" (لويس شيخو)، و "الضياء" (إبراهيم اليازجي)، و "الجنان" و "نفير سوريا" (بطرس البستاني) و "الأهرام" (سليم وبشارة تقلا). وأول مطبعة بالحرف العربي كانت مطبعة حلب الأرثوذكسية التي أسسها في سنة 1706 الشماس عبد الله الزاخر، بتكليف من البطريرك أثناسيوس دباس. وظهر قاموس المنجد في اللغة على يدي الأب لويس المعلوف من زحلة (أصل عائلته من قرية داما في جبل العرب في جنوب سورية). أما "المنجد في الأعلام" فألّفه الأب فرديناند توتل، وهو راهب حلبي. ولمع من بين المسيحيين العرب في عصر النهضة، وبعده، أعلام كبار، أمثال أديب إسحق (أرمني دمشقي) وناصيف اليازجي وإبراهيم اليازجي (من نواحي حمص) وجبرائيل الدلال (حلب) وجبر ضومط (من صافيتا) ورشيد الشرتوني (صاحب "مبادئ العربية في الصرف والنحو") وبطرس البستاني وأمين الريحاني وأحمد فارس الشدياق وسعيد الشرتوني (صاحب "أقرب الموارد") وشبلي الشميل وفيليب حتي وفرنسيس المراش وأخته مريانا المراش (من حلب) وبندلي جوزي (من فلسطين) وخليل السكاكيني (من القدس) ونجيب نصار (صاحب مجلة "الكرمل" الحيفاوية، وأصله من عين عنوب في جبل لبنان) والمطران غريغوريوس حجار (من بلدة روم القريبة من جزين وأصل عائلته من دمشق) والمطران إيلاريون كبوجي (من حلب)، علاوة على قسطنطين زريق الدمشقي وإدمون رباط الحلبي وفارس الخوري الدمشقي أيضاً، وجبرائيل جبور (من القريتين القريبة من حماة على تخوم البادية) وألبرت حوراني والأخطل الصغير والشاعر القروي (رشيد سليم الخوري) وجورج أنطونيوس وجبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وجورج صيدح (من دمشق) ونسيب عريضة (من حمص) وفوزي المعلوف وإلياس أبو شبكة ومي زيادة وإيليا أبو ماضي وخليل مطران.
ولولا هؤلاء جميعاً لما كانت الثقافة العربية المعاصرة على مثل صورتها التي عرفتها الحياة الثقافية العربية، طوال أكثر من مائة سنة، وعلى الأرجح أنها كانت باهتة وجافة، ومتصحرة بلا رواء أو نضارة.