ما لا يراه يهوذا الإسخريوطي في حرب غزة

05 سبتمبر 2014

فلسطيني من صناع ثبات المقاومة في غزة (27أغسطس/2014/الأناضول)

+ الخط -

ثمة رواية طريفة عن لوحة العشاء الأخير لدافنشي، أشعلت لديَّ شلالاً من التخيلات والاحتمالات والإسقاطات. يقال إن الفنان الكبير حينما أراد أن يرسم وجه السيد المسيح، طاف في البلاد باحثاً عن وجه "موديل"، يعكس تصوره عن السيد المسيح، في جماله وبهائه، فوجد رجلاً بهذه الصفات، ورسم وجهه، باعتباره السيد المسيح، ثم أكمل لوحته، المعروفة باسم "العشاء الأخير"، وهي تُصوّر المسيح جالساً على المائدة مع اثني عشر من حوارييه.

في الليلة التي سبقت خيانة المسيح من أحد أتباعه، حيث جمعهم للطعام، وأخبرهم بما سيحدث، واللوحة تصور هذه اللحظات القليلة، بعد أن ألقى المسيح على الحواريين مفاجأته، بأن أحدهم سيخونه قبيل شروق الشمس، وهي تكشف ردود فعل الحواريين التي كانت مزيجاً من الرعب والصدمة والغضب، إلى جانب المسيح نفسه؛ فإن الشخصية المحورية في اللوحة هي شخصية يهوذا المتآمر، وهو يظهر بصورة أقرب ما يكون إلى "الشرير". تقول الرواية إن دافنشي رسم كل الحواريين، وبقي يهوذا، واستغرقه البحث عن "موديل" يهوذا وقتاً طويلا، إلى أن عثر على شخصيةٍ تشبه ما يتصوره عن يهوذا، وهنا، بحسب الرواية، كانت دهشة دافنشي عظيمة، إذ اكتشف أن الذي استلهم من شخصيته وجه المسيح، هو نفسه الذي حولته الأيام إلى يهوذا، أو ما يمكن أن يكون يهوذا، حسب تصور دافنشي!

للرواية أكثر من دلالة، فحسب السرد المسيحي، فإن يهوذا الاسخريوطي، أو القريوتي، نسبة لقرية قريوت الفلسطينية، ندم على فعلته بعد أن سلم المسيح لليهود وقتلوه صلباً فانتحر، أما الرواية في السرد الإسلامي فتقول إن اليهود قبضوا على يهوذا هذا، وحسبوه المسيح، لشدة شبهه به، وصلبوه قتلاً، ولا أدري هنا، ما علاقة ما حصل مع دافنشي، وهو يبحث عن الشخصيتين اللتين تشبهان المسيح ويهوذا في وقت واحد، وهل هي محض مصادفة أن يتحول "الموديل" الذي ألهم دافنشي صورة المسيح، إلى "موديل" آخر، يلهم دافنشي صورة يهوذا، أو أن الرواية كلها مختلقة، ولا أساس لها من الصحة.

المهم، هنا، تأمل ما يصيب المرء من تحولات، تذهب به من جهة إلى جهة أخرى مغايرة، كأن يتحول الثائر إلى متعاملٍ مع العدو، أو الزعيم الوطني إلى قاتل لشعبه، وثمة في حياتنا المعاصرة كثيرون من "استنساخات" يهوذا، فهو كما يبدو "موديل" كثير الوجود، في كل العصور، وفي جميع فئات المجتمع، سواء كانوا ناساً عاديين أو زعماء شعبيين!
انثالت هذه الأفكار على رأسي، وأنا أرقب، بأسى عميق، تحولات نفر غير قليل من المثقفين والكتاب، من ممجدين للحرية والمقاومة إلى هجّائين لها، وطاعنين ظهرها، ومجتهدين في البحث عن أي مأخذ، ولو كان تافهاً لتسخيف ما أنجزته، وتحويله إلى هزيمة منكرة. وتتوقف هذه السطور أمام إلماحات سريعة، تحتاج مئات الصفحات لتفسيرها، واستنباطها، مما لم يره، أو لا يريد أن يراه "المتحولون" من المسيح إلى يهوذا:

ماذا حل بالفيلا وسط الغابة؟

حسب تعبير إيهود باراك، رئيس وزراء إسرائيل الأسبق، دولة الكيان بمثابة "الفيلا وسط الغابة" واحة "حضارة" وديمقراطية وسط شرق أوسط متوحش، فماذا حل بهذه الفيلا؟

لا أجد جواباً أكثر "خشونة" وقسوة من تعبيرات الحاخام أمنون إسحق، أبرز زعماء اليهود المتدينين في إسرائيل "الحريديم"، في فيديو مرفوع على "يوتيوب"، مستشهدا بآية في سفر التثنية، اعتبر أنها تنطبق على ما حدث لجنود إسرائيل الذين غضب عليهم الرب" (كيف يطرد واحد ألفاً ويهزم اثنان ربوةً، لولا أن صخرهم باعهم والرب سلمهم)، ويعلق: كيف يطارد صاروخ واحد مئات الأشخاص، يتمددون على الأرض في الشوارع، ويبكون ويصرخون رعباً داخل الغرف المحصنة؟ إسرائيل غرتها قوتها، لكنها ليست سوى نمر من ورق، نعتقد أننا أقوياء. ولكن، نحن لا نملك القوة، فنحن أصفار، إن كان بعد معركة استمرت شهراً تقريبًا تنسحب يا مستر فيفي (نتنياهو)، فهذا يعني أننا أصفار. ألف جندي منهم. فقط ألف جندي خرجوا للحرب. جعلوكم تهربون".

ماذا حل بـ"أزعر الحي"؟

داود الفلسطيني الضعيف يمرّغ أنف جالوت اليهودي (أزعر الحي) بالتراب، ربما تبدو العبارة مبالغاً فيها. حسناً، يقول العميد في الاحتياط، أفيغدور كهلاني، قائد جيش الاحتلال في حرب 1967، "على إسرائيل الاعتراف بالحقيقة. حماس لقنتنا درساً. أنا لا أقلل من قوة الخصم، علمنا أن لديهم قوة صاروخية، لكننا لم نستوعب، ولم ندرك حجم هذا الخطر". ويكتب آري شبيط في "هآرتس" إن إسرائيل كانت، في العقد الماضي، تعيش فيما يشبه فقاعة هناء وغفلة عن الواقع المحيط بها، إلى أن فجرت حماس هذه الفقاعة. المعنى الاستراتيجي لما يحدث، كما يقول شبيط، إن السيادة الإسرائيلية انتُهكت. فالدولة التي سماؤها مثقوبة، ومجالها الجوي مخترق، ومواطنوها ينزلون إلى الملاجئ على الدوام هي دولة عندها مشكلة، قوة إسرائيل الإقليمية (أزعر الحي) لم تنجح في التغلب تغلباً حاسماً على كيان إرهابي (!) صغير وفقير وجريء على مرأى من عيون أعدائنا وأصدقائنا المذهولة!

إسرائيل، كانت في لب الفكرة الصهيونية، ملاذ اليهود، وجيشها حارس هذا الملاذ، حرب غزة ضربت هذا المبدأ بقسوة، فقد تحول "الملاذ" إلى المكان الأقل أمناً والمكان الوحيد الذي يقتل فيه اليهود، يكتب يوآف شاروني، وهو خبير استراتيجي صهيوني في مؤتمر هرتسيليا العام للشؤون الأمنية والعسكرية، في مقال له بعنوان "هزيمة جيشنا المدلل العزيز" "الجيش يتصدع على يد حماس التي انتصرت، وعملية ناحل عوز مذهلة، حطمت قدرة الردع، ومحطة فارقة للأبد، وتأثيرها فاق ألف صاروخ على تل أبيب، أظهرت جنودنا كجبناء، وحطمت قدرة الردع إلى الأبد، وبرأيي ستكون محطة فارقة إلى الأبد. تحول جيشنا من جيش خشن صلب لا يهاب الموت إلى جيش ناعم جبان؛ فبدلاً من اعتماده على صلابة المقاتل، أصبح يعتمد على صلابة تصفيح الدبابة التي فتتها كورنيت حماس، ويعتمد على الجدران الإسمنتية التي حفرت حماس الأنفاق الشيطانية تحتها؛ ليخرج مخربوها في مشهد هوليودي من عين النفق باتجاه موقعنا، ثم يذبحون، في أقل من دقيقتين، عشرة جنود من النخبة، مثل الخراف المرتعبة!

الكلام كثير، ولا يستوعبه مقال، فما حصل في غزة، سيكون مادة دراسية دسمة، للمحللين والكتاب والخبراء الاستراتيجيين، وسيُدرس في الكليات العسكرية!

A99D1147-B045-41D9-BF62-AB547E776D3E
حلمي الأسمر

كاتب وصحافي من الأردن