02 نوفمبر 2024
في الانتقال الثّقافي
شهد المجتمع العربي، مع بداية العشريّة الثانية من الألفيّة الثالثة، حالات حراك احتجاجي، في عدد من الأقطار التي انتفض فيها النّاس ضدّ الدّولة القامعة، وأدواتها الشموليّة. ونجح المحتجّون، بدرجات متفاوتة، في الحدّ من هيمنة أنظمة مستبدّة، جثمت على صدور المقهورين سنين عددا. وأسّس المنتفضون لعصر جديد في تاريخ الشّعوب العربيّة، اصطلح عدد من الدّارسين على تسميته بعصر الثّورة. وأنتج هذا العصر تحوّلاً نوعيّاً في مستوى الهرم السّياسي الحاكم، فأدّت الثّورة إلى سقوط عدد من عُتاة الدّيكتاتوريّة على جهة العزل، أو الدّفع، أو التّصفية. وواكب التّغيير في النّظام السياسي تحوّل في مستوى العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وإقرار بضرورة تشريك المواطن في الشّأن العامّ، وتوسيع مجال الحرّيات العامّة والخاصّة، وانتقال من حقب الأحاديّة الحزبيّة والإيديولوجيّة إلى عصر التعدديّة. لكنّ الواقع العمراني، المشهود حاليّاً، يُخْبِر أنّ الانتقال المأمول نحو الديمقراطيّة لم يواكبه انتقال ثقافيّ يساهم في تأصيل الفعل الثّوري، وتنظيمه وتوجيهه، وتكييفه وفق مقتضيات اللّحظة التاريخيّة التي نعيش.
فالملاحظ، اليوم، أنّ أغلب الناس لم يخرجوا بعدُ من نشوة الرّفض الدّائم والتمرّد المطلق على السّلطة، باعتبارها رمزاً للاستبداد المقنّن في عصر الدّيكتاتوريّة، بل انصرفوا، عن وعي أو عن غير وعي، إلى محاولة الثأر من الدّولة، باعتبارها كياناً مهيمناً رادعاً داخل الاجتماع البشري، فجرى تلبيس اللاّحق بالسّابق، وظلّ النّظام، في تصوّر كثيرين، علامة على القوّة القاهرة التي يتعيّن تقويضها تحقيقاً لسيادة الشّعب.
والحقيقة أنّ الثّورة في المجتمعات المستنيرة لا تعني تفكيك الدّولة، والتحلّل النّهائيّ من قوانينها وتخريب مؤسّساتها، بل تعني، في جانب ما، إعادة هيكلة أجهزة الدّولة، وتأهيل كوادرها وطاقاتها، لتضطلع بدور فعّال في خدمة المجتمع المدني، فالحاجة أكيدة، إبّان الثّورات، إلى إعادة تشكيل عقول النّاس، وإرساخ الثّقافة الدّيمقراطيّة في حياة الأفراد والجماعات، حتّى يتمّ تحويل الثّورة من كونها أصلاً من أصول الاحتجاج إلى كونها عاملاً من عوامل البناء الحضاري، وسبباً من أسباب العمل الوطني المدني المشترك. ويقتضي الانتقال الثّقافي في مقام أوّل الإعلاء من قيمة الإنسان عموماً، والمثقّف والمبدع خصوصاً، باعتباره كائناً فاعلاً إيجابيّاً في المجتمع المستنير. ومن المهمّ بمكان، في هذا السّياق، إحياء الرّصيد القيمي الجامع بين
المواطنين، من قبيل قيم التّسامح والتّضامن والتآخي، ونبذ الفرقة، وإرساخ الثّقة بالنّفس، وحبّ العمل، وتشجيع النّاجح، والأخذ بيد الفاشل، واستشراف المستقبل، ونشر ثقافة الحقّ والواجب، واعتبار المسؤوليّة تكليفاً لا تشريفاً. فالثّورة فعل مؤسّس للبناء، لا للهدم، وحدث مرشّح لكسب معركة الحاضر والمستقبل، لا حدث رجعيّ، ينقلب على أعلامه، وينكفئ إلى إحياء الماضي الاستبداديّ.
ونشر الثّقافة المستنيرة البديلة هو الضّامن لتحقيق أهداف الثّورات، وأحلام المستضعفين التوّاقين إلى الحرّية والكرامة والعدالة. وما نراه، في أغلب وسائل الإعلام وغيرها من قنوات تشكيل الوعي الجمعيّ في وطننا العربيّ بعد الثّورة، هو، في الغالب، ميل إلى إحياء ثقافة العجز والإحباط، بدل ثقافة المبادرة، وسعي إلى إثارة النعرات العصبيّة القبليّة والجهوية والطائفيّة، بدل نشر قيم الوحدة الوطنيّة، فغلبت المصالح الفئويّة الضيّقة على الصّالح العامّ، ودبّ في النّاس شعور بالخوف من المستقبل، ورغبة في استعادة حقب ماضويّة، رفضتها حركة التّاريخ. ومن المريب أن نرى جُلّ نخبنا المثقّفة، وأحزابنا السياسيّة وأغلب جمعيّاتنا المدنيّة ومراكزنا البحثيّة، لا تنهض بدورها في تنوير النّاس، ونشر ثقافة المواطنة، بل تنصرف إلى خدمة أجندات إيديولوجيّة ومطلبيّة ضيّقة، لا ترتقي إلى مستوى مقتضيات المرحلة، ولا تستجيب لمطلب تجديد الوعي السّياسيّ الجمعيّ لدى المواطنين، ونشر ثقافة الاعتدال والتّعايش السّلمي بينهم. بل اكتفى عدد مهمّ من المنتمين إلى النّخب العربيّة المسيّسة، وغير المسيّسة، بالمتابعة أو المناورة أو الاستقالة. وفي حالات أخرى، أشرف بعضهم على قيادة حملات ثقافيّة في فنّ الإقصاء والاستبلاه الجماعيّ، وفي فنّ التّخوين والتّخويف والتّحزيب البغيض. وغاب عن هؤلاء، وغيرهم، أنّ الانتقال الدّيمقراطيّ يبقى مبتوراً، ما لم يواكبه انتقال ثقافيّ في الوعي والممارسة بالضّرورة.
فالملاحظ، اليوم، أنّ أغلب الناس لم يخرجوا بعدُ من نشوة الرّفض الدّائم والتمرّد المطلق على السّلطة، باعتبارها رمزاً للاستبداد المقنّن في عصر الدّيكتاتوريّة، بل انصرفوا، عن وعي أو عن غير وعي، إلى محاولة الثأر من الدّولة، باعتبارها كياناً مهيمناً رادعاً داخل الاجتماع البشري، فجرى تلبيس اللاّحق بالسّابق، وظلّ النّظام، في تصوّر كثيرين، علامة على القوّة القاهرة التي يتعيّن تقويضها تحقيقاً لسيادة الشّعب.
والحقيقة أنّ الثّورة في المجتمعات المستنيرة لا تعني تفكيك الدّولة، والتحلّل النّهائيّ من قوانينها وتخريب مؤسّساتها، بل تعني، في جانب ما، إعادة هيكلة أجهزة الدّولة، وتأهيل كوادرها وطاقاتها، لتضطلع بدور فعّال في خدمة المجتمع المدني، فالحاجة أكيدة، إبّان الثّورات، إلى إعادة تشكيل عقول النّاس، وإرساخ الثّقافة الدّيمقراطيّة في حياة الأفراد والجماعات، حتّى يتمّ تحويل الثّورة من كونها أصلاً من أصول الاحتجاج إلى كونها عاملاً من عوامل البناء الحضاري، وسبباً من أسباب العمل الوطني المدني المشترك. ويقتضي الانتقال الثّقافي في مقام أوّل الإعلاء من قيمة الإنسان عموماً، والمثقّف والمبدع خصوصاً، باعتباره كائناً فاعلاً إيجابيّاً في المجتمع المستنير. ومن المهمّ بمكان، في هذا السّياق، إحياء الرّصيد القيمي الجامع بين
ونشر الثّقافة المستنيرة البديلة هو الضّامن لتحقيق أهداف الثّورات، وأحلام المستضعفين التوّاقين إلى الحرّية والكرامة والعدالة. وما نراه، في أغلب وسائل الإعلام وغيرها من قنوات تشكيل الوعي الجمعيّ في وطننا العربيّ بعد الثّورة، هو، في الغالب، ميل إلى إحياء ثقافة العجز والإحباط، بدل ثقافة المبادرة، وسعي إلى إثارة النعرات العصبيّة القبليّة والجهوية والطائفيّة، بدل نشر قيم الوحدة الوطنيّة، فغلبت المصالح الفئويّة الضيّقة على الصّالح العامّ، ودبّ في النّاس شعور بالخوف من المستقبل، ورغبة في استعادة حقب ماضويّة، رفضتها حركة التّاريخ. ومن المريب أن نرى جُلّ نخبنا المثقّفة، وأحزابنا السياسيّة وأغلب جمعيّاتنا المدنيّة ومراكزنا البحثيّة، لا تنهض بدورها في تنوير النّاس، ونشر ثقافة المواطنة، بل تنصرف إلى خدمة أجندات إيديولوجيّة ومطلبيّة ضيّقة، لا ترتقي إلى مستوى مقتضيات المرحلة، ولا تستجيب لمطلب تجديد الوعي السّياسيّ الجمعيّ لدى المواطنين، ونشر ثقافة الاعتدال والتّعايش السّلمي بينهم. بل اكتفى عدد مهمّ من المنتمين إلى النّخب العربيّة المسيّسة، وغير المسيّسة، بالمتابعة أو المناورة أو الاستقالة. وفي حالات أخرى، أشرف بعضهم على قيادة حملات ثقافيّة في فنّ الإقصاء والاستبلاه الجماعيّ، وفي فنّ التّخوين والتّخويف والتّحزيب البغيض. وغاب عن هؤلاء، وغيرهم، أنّ الانتقال الدّيمقراطيّ يبقى مبتوراً، ما لم يواكبه انتقال ثقافيّ في الوعي والممارسة بالضّرورة.