28 مايو 2017
الخطابات السعودية عن الحج
هناك بناءٌ مكانيّ ماديّ للحج، الحرمان الشريفان وجبل عرفة وخيام مِنى وجسر الجَمَرات، وهناك بناءٌ روحانيٌّ يتعلق بشعائر الحجّ التي يؤديها المسلمون في هذه الأماكن، وطريقة فهمهم هذه الشعائر. لكن، قد يكون هناك بناءٌ خَطَابي حول الحجّ حظّه من الاهتمام أقل بكثير من البناءين السابقين. يستفيض الإعلام السعودي في استعراض ما يتمّ إنجازه كل عام في مجال تطوير الأماكن المقدسة عمرانياً، وربما نقده أيضاً، ولفقهاء البلاد أحاديث ومواعظ تتراكم في فقه الحجّ وروحانياته، لكن الخطاب السعودي حول احتضان البلاد السنويّ الحجّ والحجيج لا يحظى بالاهتمام نفسه، أو، على الأقل، نادراً ما يُعتبر موضوعاً لنظرة خارجية تقيّمهُ اجتماعياً في معزل عن قُدسيّة الحجّ. والمقصود، هنا، ليس الخطاب الرسمي فقط أو الخطاب الشعبي فقط، بل مزيجاً منهما معاً، فالحجّ من الموضوعات القليلة التي يتكامل فيها هذان الخطابان، وما لا يقوله أحدهما، يُصرّح به الآخر.
على سبيل المثال، الخطاب العامّ حول الطبيعة السياسية للحج. هل الحجّ مناسبة دينية - سياسية؟ هل الحج مناسبة دينية خالصة، يُمثّل "تسييسها" بدعة شاذة عن طبيعتها؟ سؤال الحجّ والسياسة مطروح باستمرار، وإن شكّل هذا العام عنواناً للأخبار والتصريحات السياسية، تبعاً لأحداث الحج التي تقاطعت مع وضع إقليمي ملتهب. أحداث الحجّ في عقد الثمانينيات بالذات (المظاهرات الإيرانية، تهريب المتفجرات) أظهرت، بوضوح، خطورة تحويل الحجّ إلى انعكاس فجّ للخلافات السياسية. ولا يزال السؤال يتجدد سنوياً في تمسك بعثة الحجّ الإيرانية بالقيام بـ"تظاهرة البراءة من المشركين" في يوم عرفة، والتي تمّ تخفيضها ببراغماتية إلى "مراسم البراءة من المشركين"، والاكتفاء بإتمامها داخل مخيمات البعثة الإيرانية، أو تظاهر الحوثيين هذا العام في صنعاء بإحرامات الحجّ والأسلحة. ويمكنك أن تتخيل كيف سيكون أداء الحجّ مستحيلاً، لو أن بعثات الدول المختلفة اعتبرت الحجّ موسماً سنوياً للتعبير عن الرأي السياسي، أو لو تحول الحجّ إلى موسم للمواجهات السياسية بين بعثات دول في حالة حرب، أو بين البعثات والدولة المستضيفة. من الواضح أنّ هناك مستوى محدداً من "تسييس الحجّ" يمكنهُ أن يقوّض الحجّ ذاته، و هو تسييس شعائر الحجّ و مناسكه، وعلى هذا المستوى يكون خطاب
"رفض تسييس الحجّ" مفهوماً و مقبولاً.
لكن هذا الخطاب، وعلى هذا المستوى أيضاً، يتعرّض إلى تناقض داخليّ يُضعفه، عندما يتغاضى عن الطبيعة السياسية البارزة لخُطب المفتي العام للمملكة السنوية في يوم عرفة، فالمفتي، على سبيل المثال، قد خصص جزءاً من خطبة هذا العام للحديث عن الحوثيين (الذين تواجههم المملكة عسكرياً في اليمن). ومن اللافت أنهُ كان قد حذّر، في خطبة العام الماضي، من "تحويل الحج إلى منبر للمهاترات السياسية"، لكنه، وفي تلك الخطبة نفسها، عاد لينتقد "الدعوات التي تنادي بالحرية والعدالة والديمقراطية وحقوق الإنسان". إذاً من الجليّ أن الخطاب الرافض تسييس الحجّ معقول في مستوى معيّن، ولا تنقصه الوجاهة، إنما يفتقر إلى المزيد من الصدق والاتّساق الداخلي.
لا يمكن للحج أن يكون ظاهرة غير سياسية على الإطلاق، فوقوع المشاعر المقدسة في دولة ذات حدود وسيادة تجعل الحج، في بعض مستوياتهِ، سياسياً بالضرورة. تاريخياً، كانت رعاية الحرمين وكسوة الكعبة امتيازاً سياسياً في الفضاء الإسلامي، وانعكاساً لهذا الامتياز السياسي، تولّد خطاباً سعوديّاً ثابتاً رسمياً وشعبياً حول التشرّف بخدمة الحجيج واستقبال ضيوف الرحمن، لكن هذا الخطاب، أيضاً، يرتبك عندما يخرج سير الحجّ عن المتوقع، كما هو الحال هذا العام، إذ تتراجع، وبلا وعي شعبيّ وإعلامي، نبرة الخدمة والتشريف، وتطغى نبرة السيادة والتفوّق الدفاعية. ومن هنا، يستسهل معلّقون على أحداث الحجّ اتّهام ثقافات أو جنسياتٍ محددة بالجهل والتخلف، وتحميلهم المسؤولية عن الأخطاء، ووصمهم بقلة التّفقّه في مناسك الحج، وضرب المثل الاختزاليّ المعتاد حول أطنان المخلفات التي يتركها الحجيج وراءهم، والجهد الذي تبذله السلطات لإعادة المشاعر المقدسة إلى نظافتها.
من الصعب أن يجمع خطابٌ واحد بين "ضيوف الرحمن" و"المخلّفات"، من دون أن يبدو متناقضاً، أو أن يُعبّر، في معنى أبعد ربما، عن تغلّب الأبعاد العملية والسياسية، على تفسير التظاهرة الروحانية، في اللحظات المتأزمة.
يتضافر البُعد السياسيّ للحج مع الإصرار، في الوقت نفسه، على كونه مناسبة دينية وروحانية خالصة، ليستولد خطاباً معيّناً حول اقتصاديات الحج، يظهر فيها شعيرة دينية تستهلك قسطاً من موازنات الدولة، تبذلهُ لتطوير الحرمين والمشاعر عمرانياً وتوفير القوة البشرية الضرورية
لإدارة الحجّ. وهذا كله حقيقي، لكن المشكلة تظهر في تصور الحجّ، في هذا الخطاب، مناسبة دينية تستهلك ولا تُنتج اقتصادياً، ويُبذل من أجلها الغالي والنفيس بلا مردود سوى الأجر والمثوبة من الله، وهو أمرٌ يصعب تخيّله بالنظر إلى التطوير العقاري الدؤوب في المدينتين المقدستين، ومستويات الإشغال الفائقة في موسم الحجّ للعقارات المؤجرة، وما يستتبعها، بالطبع، من نشاط تجاري للمدينتين على كل مستوى، كما أن البُعد الاقتصاديّ للحج ثابت تاريخياً منذ أن كانت مكة قرية في طريق قوافل التجارة. ومن جانب آخر، إنفاق الدولة على الحرمين والحجّ ضرورة لا خيار فيها للحفاظ على امتيازها السيادي في رعاية المدينتين المقدستين المركزّيتين في العالم الإسلامي، وهو أهمّ عائد على الإطلاق تجنيه من هذا الإنفاق، وهوَ عائدٌ سياسيٌّ تماماً.
لا يتمّ الحجّ في فضاء مطلق ومفتوح. الحجّ عبادة تحتاج إلى جواز سفر وتأشيرة مرور، ويُعرّف الحجاج على أساس تبعيّتهم لكياناتٍ سياسية. من الصعب أن تُنكر الأبعاد السياسية للحجّ، الذي يتمّ تحت مظلة الدولة الحديثة. وعلى الرغم من ذلك، هذا ما تحاول الخطابات السابقة فعله، والمشكلة في هذا المنزع، الذي يعتبر الإشارة إلى الأبعاد السياسية للحج طعناً وانتقاصاً، أنهُ يُبقي التصورات مختلطة ومشوّشة، فلا نعرف متى تبدأ السياسية، ولا أين تنتهي الروحانية.
لكن هذا الخطاب، وعلى هذا المستوى أيضاً، يتعرّض إلى تناقض داخليّ يُضعفه، عندما يتغاضى عن الطبيعة السياسية البارزة لخُطب المفتي العام للمملكة السنوية في يوم عرفة، فالمفتي، على سبيل المثال، قد خصص جزءاً من خطبة هذا العام للحديث عن الحوثيين (الذين تواجههم المملكة عسكرياً في اليمن). ومن اللافت أنهُ كان قد حذّر، في خطبة العام الماضي، من "تحويل الحج إلى منبر للمهاترات السياسية"، لكنه، وفي تلك الخطبة نفسها، عاد لينتقد "الدعوات التي تنادي بالحرية والعدالة والديمقراطية وحقوق الإنسان". إذاً من الجليّ أن الخطاب الرافض تسييس الحجّ معقول في مستوى معيّن، ولا تنقصه الوجاهة، إنما يفتقر إلى المزيد من الصدق والاتّساق الداخلي.
لا يمكن للحج أن يكون ظاهرة غير سياسية على الإطلاق، فوقوع المشاعر المقدسة في دولة ذات حدود وسيادة تجعل الحج، في بعض مستوياتهِ، سياسياً بالضرورة. تاريخياً، كانت رعاية الحرمين وكسوة الكعبة امتيازاً سياسياً في الفضاء الإسلامي، وانعكاساً لهذا الامتياز السياسي، تولّد خطاباً سعوديّاً ثابتاً رسمياً وشعبياً حول التشرّف بخدمة الحجيج واستقبال ضيوف الرحمن، لكن هذا الخطاب، أيضاً، يرتبك عندما يخرج سير الحجّ عن المتوقع، كما هو الحال هذا العام، إذ تتراجع، وبلا وعي شعبيّ وإعلامي، نبرة الخدمة والتشريف، وتطغى نبرة السيادة والتفوّق الدفاعية. ومن هنا، يستسهل معلّقون على أحداث الحجّ اتّهام ثقافات أو جنسياتٍ محددة بالجهل والتخلف، وتحميلهم المسؤولية عن الأخطاء، ووصمهم بقلة التّفقّه في مناسك الحج، وضرب المثل الاختزاليّ المعتاد حول أطنان المخلفات التي يتركها الحجيج وراءهم، والجهد الذي تبذله السلطات لإعادة المشاعر المقدسة إلى نظافتها.
من الصعب أن يجمع خطابٌ واحد بين "ضيوف الرحمن" و"المخلّفات"، من دون أن يبدو متناقضاً، أو أن يُعبّر، في معنى أبعد ربما، عن تغلّب الأبعاد العملية والسياسية، على تفسير التظاهرة الروحانية، في اللحظات المتأزمة.
يتضافر البُعد السياسيّ للحج مع الإصرار، في الوقت نفسه، على كونه مناسبة دينية وروحانية خالصة، ليستولد خطاباً معيّناً حول اقتصاديات الحج، يظهر فيها شعيرة دينية تستهلك قسطاً من موازنات الدولة، تبذلهُ لتطوير الحرمين والمشاعر عمرانياً وتوفير القوة البشرية الضرورية
لا يتمّ الحجّ في فضاء مطلق ومفتوح. الحجّ عبادة تحتاج إلى جواز سفر وتأشيرة مرور، ويُعرّف الحجاج على أساس تبعيّتهم لكياناتٍ سياسية. من الصعب أن تُنكر الأبعاد السياسية للحجّ، الذي يتمّ تحت مظلة الدولة الحديثة. وعلى الرغم من ذلك، هذا ما تحاول الخطابات السابقة فعله، والمشكلة في هذا المنزع، الذي يعتبر الإشارة إلى الأبعاد السياسية للحج طعناً وانتقاصاً، أنهُ يُبقي التصورات مختلطة ومشوّشة، فلا نعرف متى تبدأ السياسية، ولا أين تنتهي الروحانية.